أنتوني هوكينج عالم فيزيائي وصاحب نظرة فريدة، رأى الكون كما لم يره أحد رغم أنه كان قعيد كرسيه المتحرك. رحل العالم العنيد، الرجل الذي عاند المرض والموت والإعاقة، وامتلك الكون الواسع وهو قعيد كرسيه المتحرك، في بداية الستينيات عندما أصيب بمرض ضمور العضلات الجانبي، تنبأ الأطباء بأنه لن يصمد أكثر من ثلاث سنوات، ولكنه لم يستسلم لسطوة الموت إلا بعد نحو خمسين عاما، ستيفن هوكينج كان يسعده أن يقول إنه ولد بعد ثلاثمئة عام في اليوم نفسه الذي مات فيه جاليليو، فقد ولد في 8 يناير عام 1942، وعلينا أن نتخيل كيف كان سيتصرف إذا عرف أنه سيموت في 14 مارس عام 2018 اليوم نفسه الذي ولد فيه ألبرت أينشتاين منذ مئة وثلاثين عاما، ربما لا يعرف الكثيرون ماذا قدم ستيفن هوكينج للعلم، ولكنهم يعرفون قصة صراعه العنيد مع المرض، وقد ركز الفيلم الذي أنتج عن حياته بعنوان "نظرية كل شيء" على ذلك المزيج من العناد والإصرار الذي كان هذا الرجل يتمتع به، كما أن كتابه الشهير "مختصر تاريخ الزمن" الذي صدر 1988 حقق أكبر المبيعات وقرب للناس فكرة الكون الذي نعيش فيه وعن نظريات الفيزياء المعاصرة لتفسيره. يقول هوكينج: "إذا كانت توقعاتك تقارب الصفر، فستكون ممتنا لأي شيء تحصل عليه"، كان المرض قد قطع عليه طريق الأمل في أن يعيش حياته كإنسان طبيعي، لم يدع لنفسه مجالا للتذمر أو الغضب، كان صغيرا عندما بدأ يتعثر ويسقط من تلقاء نفسه، وعندما عرضه والداه على الأطباء اكتشفوا بدايات هذا المرض، ولكن جسده كان لا يزال متماسكا، لم يبدأ في الانهيار إلا في الواحد والعشرين من عمره، قبل أن يقدم رسالة الدكتوراه إلى جامعة كامبريدج، بدأ الضمور يزحف على عضلاته، كل تطور يترك خلفه شللا دائما، يفقد القدرة على الحركة، ثم القدرة على الكلام، لم يعد يتحرك في جسده إلا عينان يقظتان وعقل لا يكف عن التفكير، ولكن مثلما دخل المرض إلى حياته كقدر حتمي، جاء إليه الحب أيضا كلمسة من الدفء والأمل، تعرف إلى زميلته في الجامعة "جين وايلد" التي آمنت به، وظلت خلفه منذ اللحظة الأولى، كان يمر بمرحلة من اليأس العميق، بعد أن أكد له الأطباء أنه ليس أمامه إلا سنوات ثلاث قبل أن تنهار كل وظائف جسده، ولم يجد فائدة في مواصلة إعداد الرسالة، "كنت سأترك كل شيء، وأقضي أيامي الأخيرة وأنا أستمع لموسيقى فاجنر" ولكن "جين" أصرت على أن يتجاوز لحظة اليأس ويقدم أطروحته، رأت فيها لمحة من عبقريته، خاصة وأنها تدور حول النظرية النسبية عند أينشتاين، ولم تتجاوزها فقط ولكن حطمتها أيضا، وبعد ذلك لم تتزوجه جين فقط، بل إنها أنجبت منه ثلاثة أبناء أيضا. كان ستيفن هوكينج يرى الكون بمنظور جديد، وأثبت كل ذلك نظريا بالمعادلات الرياضية، ولكن جسده كان يخونه، وعندما أصيب بالشلل وظل يرفض الجلوس على المقعد المتحرك، كان يرى بعقله أن الكون لا يكف عن التمدد والاتساع، بينما الواقع من حوله يضيق ويصبح خانقا، ومرة أخرى تدخلت زوجته وأقنعته بقبول المقعد، اقتنع لحظتها أيضا بأنه لا يستطيع مواصلة حياته إلا بالاعتماد على أحد، كان لا يستطيع أن يشرب كوبا من الماء إلا ويسقط نصفه على نفسه، وأصبح من الصعب أن يصل إلى مكان عمله في الجامعة، كان في حاجة إلى منحدر خاص يسير عليه بكرسيه المتحرك، ولم يكن في ميزانية جامعه كامبريدج ما يمكنها من إنشائه، وقامت الزوجة بعمل حملة لجمع التبرعات اللازمة من أجل إقامة طريق خاص يمكن أن يستخدمه كل ذوي الإعاقة الذين يدرسون في كامبريدج. ولكن صحة هوكينج استمرت في التردي، كان جسده لا يزال متماسكا حين قبل العمل لفترة مؤقتة في جامعة كاليفورنيا، ولكن زوجته التي كانت متفانية دوما، تهتم به وبالمنزل والأولاد بدأت تحس بالتعب، وبنوع من الحرمان، استطاعت أن تقنعه بأن يدخل شخص ثالث إلى حياتهما، إذ كانت صحبة هوكينج صعبة، بسبب الذكاء الحاد والعجز المتواصل، لم يكن هناك مجال للتفاعل الاجتماعي مع غيره من الزملاء، وتم الأمر بصورة طبيعية حين أقام معهما أحد طلبة الدراسات العليا في الفيزياء، وأصبح هذا الشخص يتغير كل فترة، وعندما عادا إلى إنجلترا كان هوكينج قد أصبح عاجزا عن الكلام، وبدأ يتنفس بصعوبة ويأكل بصعوبة وأصبح أيضا عاجزا عن الإشارة بأصابعه، فقد أصيب بالتهاب رئوي حاد، وتوقف عن التنفس، وكان الحل إحداث ثقب في قصبته الهوائية، وكان هذا سببا في فقدان صوته للأبد، وتدخلت التكنولوجيا الحديثة لتخفف عنه قليلا، قام والتر وولتوس -وهو أحد المبرمجين الأفذاذ- بتطوير برنامج للتخاطب مع زوجة أبيه التي كانت تعاني من نفس العجز، ووافق هوكينج على أن يطبق عليه البرنامج نفسه مع بعض التطوير، أصبحت هناك كاميرا مسلطة عليه طوال الوقت، تلتقط تحركات عضلات وجهه وتحولها إلى نبضات إلكترونية تتجول بين الحروف المختلفة قبل أن تحولها إلى كلمات، أصبح هناك صوت إلكتروني يعبر عن هذا الجسد المشلول، لم يعد شخصا واقعيا بشكل أو بآخر، بل أصبح كائنا أسير عشرات الأسلاك والتوصيلات والنبضات الخفية، لذا لم يكن غريبا أن يأخذ الشخص الثالث في حياتهما منحنى آخر، كانت الزوجة جين قد كبتت طموحاتها ومشاعرها طويلا، كانت تهوى الموسيقى والغناء ولم تجد لهما مجالا وسط حياة العالم الجافة، ولكنها تعرفت على عازف الأرغن في الكنيسة، وجدت نفسها تنجذب إليه، ولم تشأ أن تفعل شيئا خارج المنزل أو بعيدا عن أعين زوجها، فقررت إضافته إلى المنزل، ولم يكن أمام هوكينج إلا أن يوافق على وجوده معهما: "بشرط ألا تتخلي عني، أو تكفي عن حبي". من الصعب شرح ماذا أضاف ستيفن هوكينج للعلم، لأن فهمي لفيزياء الكون قاصر عن ذلك، ولأن مصطلحات هذا العلم في اللغة العربية لا تسهل هذا الأمر، إنجاز هوكينج ليس محسوسا على أرض الواقع، لأنه يدور في علم الرياضيات المجرد، ويشرح أمورا في الكون الواسع، مثل نظرية الكوانتم أو الكم، أو الطاقة المنبعثة من الثقوب السوداء معارضا بذلك رأي أينشتاين، بل إنه يقدم تفسيرا جديدا للانفجار العظيم الذي ولد عنه الكون، كما ألقى الضوء على العلاقة بين الفضاء والزمن، وكيف أن الكون قابل للانحناء أو التمدد في حال توفر المادة والطاقة، لم يفز ستيفن هوكينج بجائزة نوبل، ولكنه فاز بالعديد من الجوائز العالمية، وكان أبرز مواقفه التي تخصنا كعرب هو امتناعه عن المشاركة في أي مؤتمر تقيمه إسرائيل ورفضه الحازم لزيارتها.