يمضي صلاح عيسى، مثل كل الأشياء الجميلة التي تختفي من عالمنا، طيف عابر، أضاف سطرا في كتاب الثقافة المصرية، وترك خلفه وجعا وحرقة، فهذا الوطن الذي أحبه كثيرا، لم يبادله الحب بالقدر نفسه، فبدلا من أن يفتح له أحضانه فتح أبواب سجونه، ورغم ذلك فإنه لم يتوقف عن الكتابة، ولم يصنع لنفسه مساره الخاص حتى وهو خلف القضبان. لا يدرك الكاتب وهو حبيس الجدران مدى ما يخلفه من أثر، وهذا جزء من سحر الكتابة، أنها سهم منطلق لا يدري أي قلوب يصيب، وقد أصابت كتاباته قلبي منذ سطوره الأولى، فأنا مثله من عشاق التاريخ المصري، ولكن رؤيته للتاريخ كانت بفهم جديد ووعي عميق، كان يرى الصراع الضاري بين طبقاته المتنافرة، والتناقضات التي تبدت في وقائعه بصورة لم يشهدها أي تاريخ آخر، تعرفت عليه من خلال كتاب "حكايات من مصر" الذي أصابني بالدهشة والانبهار، أدهشتني قدرته على عصر وقائع التاريخ واستخراج هذه الحكايات المدهشة، قدرته على التغلغل في التفاصيل الخفية، وأعادت تركيبها بحيث تصبح الصورة جديدة وواضحة، وزادت دهشتي بعد كتاب "الثورة العرابية"، الذي أنصف ذلك الزعيم المصري المفرد أحمد عرابي الذي تطاول عليه الأصاغر دون وجه حق، كان وراء هذه السطور كاتب ذو عقلية موسوعية، مثل كل مفكري التراث العربي، ثقف نفسه بنفسه في التاريخ والأدب والسياسة، سبيكة من معارف متكاملة جعلت منه مفكرا صلبا رغم قسوة السجون في عهدي عبد الناصر والسادات وظل ثابتا على موقفه. وعندما استقررت في القاهرة، كان أحد أهدافي أن أسعى للتعرف عليه، كان قد خرج مباشرة من سجنه في عهد السادات، لم يكن السجن الأخير، كنت في مقتبل حياتي العملية، طبيب امتياز في مستشفى أحمد ماهر، واكتشفت بالمصادفة أنه يسكن في شارع بورسعيد، الشارع نفسه الذي يوجد فيه المستشفى، لا أذكر كيف عرفت رقم المنزل، ولكني قررت في لحظة حماقة أن أذهب إليه، أقتحم عالمه الخاص، كنت صغيرا ومتهورا، انتهيت من عملي في العيادة الخارجية حوالي الثانية عشرة ظهرا، وسرت قليلا بجوار شريط الترام حتى وجدتني أمام البيت أدق على باب أول شقة صادفتني وأسأل عن رقم شقته، صعدت على الدرج المتآكل أواصل السؤال حتى وصلت إليه، دققت طويلا قبل أن يجيبني أحد، ولكنه فتح الباب أخيرا، مشعث الشعر، محمر العينين، كنت قد أيقظته من النوم، ونظر إلى باستغراب وأنا أقدم له نفسي، كاتب جديد، أضاف.. وجريء، ولكنه لم يردني، ربما لم يستطع وهو يسمع أنفاسي اللاهثة، أفسح لي الباب حتى أدخل، كان وحيدا، طلب منى أن أصنع كوبين من الشاي الثقيل حتى يخرج من الحمام، ثم جلست أمامه وتركني أتحدث قليلا، ثم بدأ يمسك ناصية الحديث، بعدها لم أكن أتحدث تقريبا، أستمع إليه فقط مبهورا ومشدودا، كان يرى المشهد المصري كما لم يره أحد من الذين يعتقدون أنفسهم أحرارا، يتحدث عن الكتب التي أنجزها، والكتب التي ما زال يحلم بإنجازها، وكانت كثيرة، لكنه سرعان ما ضاق بالمكان الذي نجلس فيه، أراد أن نخرج للشوارع وللشمس، لفضاء القاهرة وضجيجها، كان قد اختنق في السجن بما فيه الكفاية، وكان يتوقع العودة إليه دون خوف، ودون أن يغير من قناعته، هبطت معه وأخذنا نسير عبر شارع مجلس الأمة إلى وسط المدينة، المدهش أن هذه قد أصبحت عادة، بعد أن أنتهي من واجبات المستشفى أهرع إليه، نسير في شوارع المدينة وأنا أستمع إليه، أراقب تصرفاته العفوية وأتشربها، كان ساخرا على الدوام. الكاتبة اللاذعة صافيناز كاظم كانت تطلق عليه لقب "الوغد.. خفيف الدم"، ولكنه لم يكن وغدا، كان رجلا أصيل الموهبة، يواجه عالما شديد القمع، ولم يكن قادرا على مواجهته إلا بهذا الحس من السخرية التي استقاها من أجداده المصريين، ذات مرة توقفنا أمام أحد باعة الجرائد الذين يفرشون مطبوعاتهم بعرض الرصيف، ووجدته يشتري كتابا لم أكن أعتقد أنه مهم، ولكنه قال لي ضاحكا: "لقد دفعنا خمسة جنيهات ثمنا له، سنقرأه ونكتب مقالا نشتمه فيه ونقبض مئة جنيه"، كان يقرأ الكتب بطريقة مختلفة، يستخدم فيها كل المعارف التي اكتسبها بحسه النقدي اليساري، عدم التخلي عن الكادحين وعدم الثقة في أي سلطة، ورغم كل التحذيرات فقد بدأ قلمه يمارس بحرية في جريدة الأهالي، لسان حزب التجمع، وكان يكتب فيها بابا أسبوعيا بعنوان "الإهبارية"، يسخر من كل الوزراء في حكومة السادات ومن كل التناقضات، جريئا وشجاعا كالعهد به. ذات مرة حدثني عن زوجته الأولى، لم أعرفها ولم أقابلها، ولكني عرفت الزوجة الثانية، السيدة أمينة النقاش، واحدة من أرق الكائنات وأكثرها ثقافة وشجاعة، ولكنه كان يتحدث عن زوجته الأولى بود شديد، كانت الظروف القاسية التي مرت بهما قد جعلت استمرار زواجهما مستحيلا، يتذكر لها أحد المواقف النبيلة، عندما كان في السجن يتم فصول كتابه عن الثورة العرابية وكان في حاجة إلى مرجع مهم هو كتاب "خراب مصر" من تأليف تيودور رزونستين الذي يحكي عن فترة حكم الخديو إسماعيل وتبذيره الهائل وكيف فتح الباب للدول الأجنبية حتى يكبلوا مصر بالديون ويمصوا دمها لتقع فريسة سهلة في يد الاحتلال البريطاني، كان الكتاب قديما ونادرا، لم يكن متاحا كما هو اليوم بعد أن أعيدت طباعته عدة مرات، ولكن كانت هناك نسخة وحيدة في دار الكتب، وأخذت السيدة تتردد على المكتبة القديمة وتنقل فصول الكتاب بخط يدها حتى نقلت كل صفحة فيه واستطاعت أن تهربه خلف القضبان، وظفرنا نحن بكتاب الثورة العرابية. رغم ثقافته السياسية العالية فإن القصة كانت نقطة ضعفه، بدأ حياته كاتبا للقصة القصيرة ولونت هذه المهارة أسلوبه الصحفي فاكتسبت مقالاته طابعا أدبيا جعلتها بعيدة دائما عن جفاف السياسة، عندما بدأنا جولتنا الصباحية كان قد انتهى من روايته الأولى، "بيان مشترك ضد الزمن" ربما كان قد كتبها داخل السجن، لأنه كان قد اتخذ الخطوات من أجل نشرها، وكانت رقابة الكتب ما زالت قائمة، وقبضة الدولة متشددة إلى حد الاختناق، وذهبنا معًا إلى الرقابة التي كانت في وسط القاهرة في نفس المبنى الذي توجد فيه مصلحة الاستعلامات، كانت من الداخل أشبه بمتاهة من الغرف الكئيبة الطلاء والمكاتب القديمة والمقاعد المحطمة، لكن الرقيبة كانت سيدة جميلة ومحجبة، ولم يكن الحجاب بهذا الانتشار، ربما كان هذا أثر الوظيفة عليها، كانت منفعلة قليلا وهي تقول له: لقد قرأت كثيرا من الروايات، وهذه هي الرواية الوحيدة التي تمنيت أن أرى كاتبها، لم يكن هذا مديحا كما توقعنا، ولكنها كانت مستفزة بحق وهي تفتح الأوراق المطوية وتشير إلى الفقرات التي أثارت عصبيتها، جنس وسياسة، مزيج لا يمكن أن يمر بسهولة على أي رقيب، قرأت بعض الفقرات واحمر وجهها وعجزت عن قراءة البعض الآخر، وبينما نحن نهبط على الدرج قال لي باسما: "إحنا زودناها شوية"، لكنه لم يتخل عن تأليف الروايات، ترك فقط الخيال لفرع جديد للأدب العربي هو "الرواية الوثائقية" التي تعتمد على الوقائع والغوص في الأضابير القديمة، أعاد للضوء العديد من القضايا التي هزت مصر وأثارت انتباه العالم، ريا وسكينة، حكمت فهمي، الأميرة فتحية أخت الملك فارق، مأمور قسم البداري. رغم الرحيل ما زال حاضرا، بقامته الفارعة وصوته المتحشرج قليلا، وتلك الشذرات من الذكريات التي ربما لا يعرفها أحد غيري، رغم تباعد المسافات لم تغادرني وأخرى كثيرة.