عشية الجولة السابعة من مشاورات "أستانا" حول سوريا، أكد نظام بشار الأسد أن مدينة "الرقة" لا تزال محتلة وأنه لا يمكن اعتبارها محررة إلا عندما تدخلها قواته. ورأي نظام الأسد أن ادعاءات الولاياتالمتحدة وتحالفها المزعوم بتحرير مدينة الرقة من تنظيم داعش، مجرد أكاذيب تهدف لتحول انتباه الرأي العام الدولي عن الجرائم التي ارتكبها التحالف وأدواته في الرقة"، وقبل هذا التصريح، أعلن وزير إعلام نظام الأسد أنه لا يعتبر أي أرض محررة إلا بدخول قوات الأسد إليها، كما وصف دخول القوات العسكرية التركية إلى مدينة إدلب، والتواجد العسكري الأمريكي في التنف وبعض المناطق الحدودية، بأنه "عدوان سافر". المعروف أن تركيا نشرت قواتها في إدلب بموجب اتفاق "أستانا 6" بين روسياوتركياوإيران، وبرضاء ممثلي بشار الأسد.. والقوات التركية تدعم "قوات الجيش السوري الحر" على الأرض وبغطاء جوي روسي وحماية جدودية إيرانية، ومع ذلك يعلن نظام الأسد عن رفضه وجودها، بينما موسكو صامتة تمامًا وترفض التعليق على تصريحات نظام الأسد التي تشكك في جدية روسيا مصداقيتها إزاء حليفها في دمشق. على الجانب الآخر تتصاعد الاتهامات بين موسكووواشنطن، وتتسابق كل منهما على إعلان أولويتها وأحقيتها بتحرير المناطق السورية من تنظيم داعش الإرهابي، وترى روسيا أنها الوحيدة، مع إيران، التي يحق لها التواجد العسكري في سوريا، بينما الوجود العسكري للولايات المتحدة والتحالف الدولي غير شرعي، وفي الوقت الذي ترى فيه روسيا أيضًا أن الوجود العسكري التركي قانوني وشرعي، يؤكد نظام الأسد عكس ذلك، ويطالب تركيا بالخروج من سوريا. المثير للتساؤلات هنا أن روسيا تطالب الولاياتالمتحدة بالتعاون في سوريا، وترى أن هذا التعاون مفيد، ولكن الأخيرة تقول للروس: إن "هذا التعاون يقتصر فقط على التنسيق من أجل عدم وقوع حوادث جوي بين طيران البلدين. وأنها تحارب الإرهاب أيضا، بالضبط مثلما تعلن روسيا عن ذلك”، ولكن روسيا تريد تعاونًا أوسع مع الولاياتالمتحدة في سريا على الرغم من أنها تؤكد يوميًا على عدم شرعية الوجود الأمريكي في سوريا. هنا نصل إلى قلق روسيا من إمكانية تقسيم سوريا، والذي أعرب عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ثم وزارة الخارجية، وبعض أصحاب الرؤوس الساخنة في المجلس الفيدرالي الروسي، هذه المخاوف ظهرت فقط في شهر أكتوبر 2017، على الرغم من أن روسيا نشرت قواتها في سوريا قبل عامين، بل "ورن روسيا" نفسها كانت هي صاحبة مبادرة تقسيم سوريا إلى مناطق ما يسمى ب"تخفيف التوتر"، والتي حذَّر الجميع منها، لأنها تكرس لأمر واقع سيصبح في ما بعد مقدمة لتقسيمات إدارية ومحلية تحت سلطات مختلفة مِنْ مَنّ ساهم وشارك في تحرير هذه المنطقة أو تلك من الإرهابيين الدواعش. من الواضح أن وسائل الإعلام الروسية عمومًا، والحكومية على وجه الخصوص، لم تعد هي فقط التي تعمل ضد روسيا والسياسة الخارجية الروسية، بل وأصبح المحللون السياسيون والاستراتيجيون الروس أنفسهم يلعبون دورًا غريبًا ومثيًرا في تقزيم السياسة الروسية وتشويه أي منجز إيجابي لها عبر خلط الأوراق وتشويه تصريحات المسؤولين الروس وتوجيهها في اتجاهات معادية تماما لروسيا نفسها. "وإذا ابتعدنا عن شعوذة الإعلام الروسي وإخفاقه وتلاعباته، فإن الخبراء الروس بدأوا يوجهون اتهامات مباشرة إلى الولاياتالمتحدة والتحالف الدولي بأنهما يعملان على تقسيم سوريا، في تجاهل تام للدور الروسي ومبادرة موسكو وإصرارها على تقسيم سوريا إلى مناطق ما يسمى ب "تخفيف التوتر" وإشراك تركيا عسكريًا، رغما عن إيران وعن نظام الأسد في إدلب وفي مناطق أخرى بشمال سوريا. الخبراء الروس يرون أن قوات تركيا المتحصنة في قلعة سمعان القريبة من إعزاز والمجموعات الموالية لها بدأت عمليات استكشاف لمنطقة منبج، التي تسيطر عليها التشكيلات الكردية المدعومة من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. وترى أن تصريحات الرئيس التركي أردوغان تؤكد خطط تركيا الرامية إلى احتلال شمال سوريا، وترى أيضًا أن ثقة أردوغان العالية تستند إلى أن القوات التركية في إدلب المجاورة تستطيع الاستيلاء على عفرين ومساحات واسعة من ثلاث جهات.. أي أن عفرين عمليًا محاصرة، وترتبط بالأراضي الواقعة في الجنوب – الشرقي منها، التي تسيطر عليها قوات الأسد وحلفاؤها، بواسطة شريط ضيق. الخبراء الروس يركزون على أن نظام الأسد اتهم تركيا باحتلال أراضيها، وطالب أنقرة بإجلاء قواتها من الأراضي السورية، ولكن الغريب هنا، وهو أيضًا ما يثير دهشة نفس هؤلاء الخبراء الروس، أنه لم تصدر عن الجانب الروسي أي تصريحات رسمية بشأن تصرفات القوات التركية، كما أن الجانب الأمريكي التزم الصمت أيضًا. هنا يلجأ الخبراء والساسة الروس إلى خلط الأوراق والانتقائية، فهم يتجاهلون أن موسكو صامتة أيضًا بشأن تصريحات نظام الأسد ضد تركيا، وبالتالي ضد اتفاق موسكووأنقرة في أستانا، ويتجاهلون كل الدعوات والمناشدات الروسية للولايات المتحدة بالتعاون مع روسيا في سوريا، ويتجاهلون دعم روسيا للعديد من القوى الكردية في سوريا والعراق وتركيا، ولكنهم في الوقت نفسه يركزون على دعم الولاياتالمتحدة للأكراد، ويعترفون بأنهم (الأكراد) يشكلون القوة الوحيدة حاليًا، التي سبقت قوات الأسد في الاستيلاء على حقول النفط في دير الزور. المحللون والساسة الروس يرون أن ما يحدث أمر غير مريح لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، لأن إعلان تركيا الحرب على الأكراد في الشمال سوف يجبر نظام الأسد على إرسال وحدات عسكرية كبيرة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وهذا بدوره سوف يبطئ عملية "تحرير" دير الزور، وسوف يسمح للولايات المتحدة بإنشاء قاعدة جديدة في "القائم" على الحدود العراقية. والمدهش هنا أنهم يرون أن لدى موسكو إمكانية لتصحيح الأوضاع، حيث تستطيع القيادة الروسية الضغط على أردوغان عبر القنوات الدبلوماسية وغيرها للتخلي عن خططه والعودة إلى مهماته في محافظة إدلب!! ويصل هؤلاء الخبراء والساسة الروس إلى نتيجة مفادها أن الأمر سيكون صعبا مع الولاياتالمتحدة والدول الأخرى التي تأمل بتقسيم سوريا، بعد القضاء على الإرهابيين، إلى مناطق غير خاضعة لدمشق. ويقولون إن قيادة "قوات سوريا الديمقراطية" أعلنت أن تحرير الرقة والمناطق الأخرى سيكون بداية لمشروع "سوريا اللامركزية"، فيما تغازل واشنطن الأكراد وتغض الطرف عن استمرار تركيا في "احتلال الأراضي السورية"، وهي بذلك تهيئ الظروف اللازمة لتقسيم سوريا. هذه الهلوسات السياسية والتحليلية من جانب موسكو تحيلنا إلى أن روسيا نفسها تريد التغطية على أخطائها السياسية والميدانية في سوريا، وتريد إخفاء أهدافها الحقيقية وصراعاتها الأهم مع الولاياتالمتحدة، بإلقاء الاتهامات على الآخرين، بينما هي التي بادرت وحرصت وصممت على عملية التقسيم التي أقرت واقعا لا يمكن للسياسة الكبرى أن تتجاهله. أي أن روسيا كرَّست للتقسيم، وصممت عليه وقادت بذلك إلى أمر واقع أصبح ورقة ضمن أوراق أخرى للتفاوض. إننا الآن في نهاية المرحلة الأولى من الأزمة السورية. وجميع الأطراف يعدون حاليا للدخول إلى المرحلة الثانية، التي ستنزاح فيها "ورقة التوت"، لتصبح مكافحة الإرهاب في مرتبة ثانية أو ثالثة، بعد إعلان الجميع عن نجاحهم في القضاء على الدواعش. وبالتالي، لا يمكن أن نندهش عندما نسمع من كل من موسكووواشنطن أنهما لن تخرجا من سوريا بعد الانتهاء من طرد التنظيم الإرهابي، لقد بدأ الحديث في هذا الموضوع بقوة في كل من روسياوالولاياتالمتحدة. وبطبيعة الحال ستكون هناك أسباب وحجج جديدة للبقاء، من قبيل القضاء على فلول التنظيم وأيديولوجيته، وإعادة الإعمار، وربما حماية الأقليات، وستظهر قضايا جديدة – قديمة مثل استخدام الأسلحة الكيماوية، وتحديد مجرمي الحرب من أجل محاكمتهم، وضرورة إجراء مفاوضات مع الدول التي تتواجد قواتها في سوريا، ومواصلة مشاورتا جنيف وأستانا، وما سيستجد من صيغ أخرى للمفاوضات.. إلخ هذا المشهد القاتم والمرعب يتزامن مع تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، في لقاء مع المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، قال فيها بصراحة ووضوح إن "عهد حكم عائلة الأسد يوشك على نهايته". وذهب "تيلرسون" إلى تحديد مهم آخر، ألا وهو أن الولاياتالمتحدة تريد سوريا موحدة لا دور للأسد في حكومتها، وإذا كانت روسيا تتفق مع الولاياتالمتحدة، ولو نظريا في الجزء الأول من العبارة، إلا أنها تختلف جذريا في الجزء الثاني، لأن عدم وجود الأسد، يعني حتما عدم وجود روسيا في سوريا. وهو ما يدركه الأسد جيدا، ويعمل على أساسه، سواء بمفرده أم مع إيران. المرحلة الثانية من الأزمة السورية ستكون مليئة بالمواجهات والاشتباكات العسكرية تحت رعاية الكبار (روسياوالولاياتالمتحدة)، وستكون مليئة أيضا بالصيغ السياسية الكثيرة، والمتاجرات والمزايدات، والتضليل الإعلامي والسياسي بالمهاجرين والنازحين، وبالشعارات الإنسانية. ولكن الأخطر من كل ذلك، أن تحولات مهمة ستظهر خلال هذه المرحلة لتظهر تحالفات جديدة تماما وغير متوقعة على أنقاض تحالفات حالية مؤقتة وغير مقدسة.