بعد أن حشد الجيش التركي أعدادا غفيرة من مقاتليه وآلياته الثقيلة علي الحدود الشمالية مع سوريا فداخل الأراضي التركية, قام الجيش التركي لأول مرة منذ انطلاق الثورة/ الحرب في سوريا قبل ست سنوات ونصف السنة, بالتوغل في الأراضي السورية, ووسع انتشاره تحديدا في محافظة إدلب, شمال غرب سوريا, التي تسيطر عليها المعارضة السورية, بهدف تطويق مدينة عفرين التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية, لتمنع هذه القوات من التقدم نحو الحدود التركية. توجهت قوافل من الجيش التركي إلي الداخل السوري, وقامت بإنشاء مراصد, ترصد من خلالها تحركات الأكراد, وتمنعهم من التقدم أكثر بعد أن قضموا جزءا من هذه المدينة وغيرها من المدن السورية في محاولتهم السيطرة علي الشمال السوري كله لإعلان إدارة ذاتية فيدرالية من جانب واحد, بعيدا عن قرار كل السوريين. هذا التدخل لاقي ترحيبا من جزء من المعارضة السورية, خاصة المرتبطة بتركيا, كائتلاف قوي الثورة المعارضة السورية, والفصائل العسكرية التي تؤمن لها تركيا الدعم, لكنه لاقي انتقادات من قوي معارضة سورية أخري, علي اعتبار أنه تدخل أجنبي, حاله كالتدخل الروسي والإيراني الذي يرفضوه. من جهته, أعلن النظام السوري أن التوغل التركي في إدلب عدوان سافر وطالب أنقرة بسحب قواتها, غير أن الانتشار التركي تواصل, وتناسي النظام السوري بدوره أن التدخل الروسي والإيراني, وتدخل حزب الله والميليشيات العراقية الطائفية, هي بدورها عدوان سافر علي السيادة الوطنية, وانتهاك لها. لكن التدخل التركي في سوريا أتي بعد أيام من محادثات بين الرئيسين, الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان, أعلن في نهايتها أردوغان أن قوات بلاده ستدخل قريبا إلي سوريا, وأن قوات بلاده العسكرية ستتحرك وفقا لخطة ناقشها مع بوتين, من أجل تخفيف التصعيد في المنطقة, حيث سترابط القوات التركية داخل إدلب, وتكون القوات الروسية خارجها, ما يعني أن التدخل العسكري التركي في سوريا تم بموافقة وتأييد أهم حليف للنظام السوري الذي يدعي أنه لا يريد هذا التدخل. وتشكل محافظة إدلب واحدة من أربع مناطق سورية تم التوصل فيها إلي اتفاق خفض توتر في مايو, في إطار محادثات أستانا التي ترعاها كل من روسيا وإيران حليفتي دمشقوتركيا الداعمة للمعارضة. تباينت الآراء وقراءات مراكز التحليل حول الأسباب الحقيقية خلف العملية التركية في شمال سوريا, والمدعومة روسيا, فالتحليلات الروسية تقول إن العملية جاءت ضمن إطار الاتفاق الذي تم التوصل إليه في أستانا بين ممثلي النظام والمعارضة السورية برعاية روسياوتركيا وإيران, وأن القوات التركية ستتحرك علي الأرض بتغطية من القوة الجوية الروسية بهدف القضاء علي( هيئة تحرير الشام), التي تعد( جبهة النصرة) سابقا أبرز مكوناتها, وتوفير ظروف آمنة لوقف إطلاق النار في تلك المنطقة. فيما يري الأكراد أن هدف العملية التركية طردهم من المناطق التي سيطروا عليها, ومنعهم من ضم الجزء الشمالي الغربي من سوريا إلي إقليمهم الذي ينوون إقامته( إقليم غرب كردستان), بينما تري المعارضة السورية المقربة من تركيا أن الهدف تقوية المعارضة في ذلك الجزء من سوريا وتمكينها من فرض سيطرتها علي الأرض في مواجهة الأكراد والنظام علي حد سواء. هناك في أنقرة من يقول إن الهدف منع الأكراد من الوصول إلي المتوسط, لأن سيطرة الأكراد علي إدلب سيوفر ليس لأكراد سوريا فقط, بل لأكراد العراق أيضا, منفذا إلي البحر المتوسط, وبخلاف ذلك ستبقي كردستان السورية والعراقية حتي في حال إن صارتا دولتين مستقلتين, تتبعان إلي الجيران( تركيا وإيران), لذلك فإن منع حصول الأكراد علي منفذ إلي البحر يدخل ضمن أولويات أنقرة وأمنها القومي, كما أن أردوغان وحزب العدالة والتنمية في حاجة إلي تحقيق نصر عسكري, حتي لو كان صغيرا, لتحسين صورته السياسية. بينما يري الإيرانيون أن هدف أنقرة تعزيز موقعها العسكري في سوريا, ليكون لها حصة أكبر بعد تسوية الصراع وانتهاء الحرب, وكل ما يحدث من إعادة إعمار وزيادة نفوذ بعد ذلك, فضلا عن رغبة أنقرة حماية التركمان في الشمال السوري, الذين دعوا في أبريل الماضي إلي إقامة منطقة آمنة في إدلب ذات الأهمية الإستراتيجية. في الحقيقة, وبعيدا عن تصريحات المسئولين في كل هذه الدول المعنية بالأزمة السورية, يبدو أن العملية العسكرية التركية في الشمال السوري تهدف إلي هدفين أساسيين, الأول تركي, وهو توجيه خنجر في خاصرة مشروع الكيان الكردي شمالي سوريا, والثاني روسي, وهو إنهاء آخر وأكبر معاقل المعارضة السورية تمهيدا لإنهاء الحرب في سوريا وحسمها لصالح النظام. إلي ذلك, يبدو أن لتركيا مصلحة أخري غير عسكرية, وهي منع انزلاق إدلب إلي مصير مشابه لمدينة مدينة حلب, التي قصفها الطيران الروسي فوق رءوس سكانها, بحجة الحرب علي( جبهة النصرة) والتنظيمات المتشددة, ودمرها تماما, وهذا الأمر قد ينتج أزمة إنسانية غير مسبوقة علي حدود تركيا قد تدفع الملايين للنزوح نحو الداخل التركي, وتتفاقم أزمة اللاجئين في تركيا أكثر مما هي متفاقمة الآن, خاصة وأنه يسكن في إدلب2.4 مليون من سكانها, إلي جانب1.3 مليون نازح. وفي الغالب, تحاول روسيا تحييد محافظة إدلب لأسابيع أو لأشهر, إلي حين انتهاء النظام السوري من معاركه في حمص ودير الزور, ومن ثم التفرغ للمحافظة, وحينها ستجد أنقرة نفسها أمام خيارات أصعب من المتاحة حاليا وربما يكون أقلها المشاركة في حملة عسكرية ضد التنظيمات المتشددة( هيئة تحرير الشام) التي تضم الآلاف من المقاتلين. ما زالت تركيا تنفي أي اتصال مباشر بينها وبين الأسد, لكن لا تخفي أنها تري في المشروع الكردي خطرا أكبر بكثير علي أمنها القومي من نظام الأسد الذي تختلف معه سياسيا, وسط خشية لدي المعارضة السورية من أن يتحول التواجد التركي في إدلب إلي جسر لاستعادة إدلب من قبل النظام السوري, وعودة العلاقة التركية مع النظام. من الملاحظ أن طلائع القوات التركية دخلت إدلب بحماية من مقاتلي هيئة تحرير الشام, الذين ربما فهموا أنه سيقضي عليهم لا محالة, فقرروا بالفعل تجنيب إدلب وسكانها مصائر مشؤومة, وأدركوا أن الخيارات المتبقية كلها مرة, فاختاروا أقلها مرارة, وهو التعاون مع تركيا, خاصة أن النظام السوري والميليشيات الموالية لإيران بدأت تفتح ممرات لتنظيم الدولة الإسلامية( داعش) نحو مدينة إدلب, وبدأت مجاميع من مقاتلي التنظيم يمرون نحو إدلب من دون أي اشتباك مع ميليشيات النظام وإيران, لتشتبك مع مقاتلي هيئة تحرير الشام, وهذا بدوره يهدد تركيا لأن متشددي( داعش) قد يصبحون علي تخومها. يحبذ الإيرانيون أن يروا الأتراك غارقين في دمائهم, في مواجهة متطرفين وجهاديين في إدلب. لذلك, فتحوا الطريق لمقاتلي داعش. لكن إن تعذر ذلك, فإن القبول بسيطرة الأتراك علي إدلب, أفضل لهم من حصول تقدم كردي في تلك المنطقة, فتلك مشكلة كبيرة لإيران أيضا خاصة مع ما تواجهه في كردستان العراق. لكن بالمقابل هناك أصوات داخل قيادة( هيئة تحرير الشام) تطالب بالذهاب إلي النهاية في الصراع مع الأتراك, بوصفهم تعبيرا عن توافق إقليمي دولي, يستهدف تصفية المشروع الجهادي في سوريا, حتي لو تطلب ذلك, التحالف مع( داعش). أما بالنسبة للأتراك, فإن استيعاب( هيئة تحرير الشام) وعدم الاصطدام معها هو أفضل الخيارات المتاحة لها في إدلب, وهو ما يسعون إليه حتي لا يتورطوا بما يضمره الروس لهم, وهو تورط الأتراك في حرب استنزاف في مواجهة هذه الهيئة. لكن, لا يزال الجواب حول المسار الذي ستعتمده هيئة تحرير الشام, في التعامل مع تطورات الدخول التركي إلي مناطق سيطرتها, غير حاسم, رغم أن بشائره تؤكد أن الهيئة ستتعاون مع الأتراك. وحده الموقف الأمريكي غير واضح, فهم دون شك غير مرتاحين للتدخل العسكري التركي دون أن يعلنوا, وغير مرتاحين من حرمان حليفهم الكردي من منفذ بحري علي المتوسط, يجنبه احتمالات الحصار الاقتصادي التي يمكن أن يفرضه الأتراك والإيرانيون والسوريون, لكن ورقة الإرهاب بيدهم, وهم قادرون علي رفعها في أي وقت بوجه تركيا, علي اعتبار أنها بدأت التنسيق مع( هيئة تحرير الشام) التي تطالب واشنطن برأس بعض قادتها المحسوبين علي تنظيم القاعدة. النظام السوري هو الوحيد الذي لا يقدر علي شيء, ولا يدري بشيء, حتي تصريحات كبار المسئولين الروس تشير إلي أن النظام السوري لم يكن يدري شيئا عن الاتفاق الروسي التركي الإيراني الأخير الذي يسمح بدخول الأتراك عسكريا إلي شمال سوريا. إذا, هو تدخل عسكري تركي معقد في سوريا, يحمل الكثير من الرسائل من كل الأطراف لكل الأطراف, واحتمالاته مفتوحة علي كل التوقعات, وقد يكون لهذا التدخل دور في تهدئة الشمال السوري ومنع تدميره كما حصل في حلب والرقة ودير الزور, أو قد يكون له دور في تسريع هذا التدمير.