"تعليم الشرابية" تشهد فعاليات تقييم مسابقة النشاط الصيفي الرياضي والإرشادي    البورصات الأوروبية تغلق على ارتفاع شبه جماعي بعد الاتفاق التجاري مع أمريكا    رئيس جامعة برج العرب في زيارة رسمية لوكالة الفضاء المصرية    كاتس يتحدث عن ضرورة احتلال قطاع غزة على طريقة الضفة الغربية    إخلاء سبيل رمضان صبحي بكفالة 100 ألف جنيه على ذمة قضية «الغش والتزوير»    تفاصيل إلقاء القبض على صاحبة حساب ابنة حسني مبارك في الإسكندرية    زياد الرحباني وكارمن لبس.. 15 عاما من الحب بدأت على المسرح وانتهت بقطيعة صامتة    وزير الصحة يبحث مع رئيس اتحاد الصناعات الدوائية بإيطاليا نقل التكنولوجيا المتقدمة في صناعة الأدوية    نصائح للاستفادة من عطلات نهاية الأسبوع في أغسطس    خالد بوطيب ينفي اقترابه من الانتقال إلى الوداد المغربي    أمين الفتوى: الشبكة ليست هدية بل جزء من المهر يرد فى هذه الحالة    أمين الفتوى: تأخير الصلاة عن وقتها دون عذر ذنب يستوجب التوبة والقضاء    بريطانيا: سنعترف بدولة فلسطين في سبتمبر إذا لم تُنه إسرائيل حربها على غزة    تفتيش وتحرير محاضر.. وكيل تموين الإسكندرية يقود حملات على السلاسل التجارية    ما حدود تدخل الأهل في اختيار شريك الحياة؟.. أمين الفتوى يجيب    التريند الحقيقي.. تحفيظ القرآن الكريم للطلاب بالمجان في كفر الشيخ (فيديو وصور)    خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي لا يصلح لإصدار الفتاوى ويفتقر لتقييم المواقف    بدء انتخابات التجديد النصفى على عضوية مجلس نقابة المهن الموسيقية    إكسترا نيوز ترصد تفاصيل وصول مساعدات مصرية إلى غزة ضمن قافلة "زاد العزة"    من أجل قيد الصفقة الجديدة.. الزمالك يستقر على إعارة محترفه (خاص)    لطلاب مدارس STEM.. تعرف على جدول امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة 2025    جدول امتحانات الثانوية العامة 2025 الدور الثاني (نظام قديم)    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    تقرير: برشلونة يصدر قميصا خاصا ل الكلاسيكو بذكريات ثلاثية 2005    الغزو الصينى قادم لا محالة.. عن قطاع السيارات أتحدث    حتى لا تسقط حكومته.. كيف استغل نتنياهو عطلة الكنيست لتمرير قرارات غزة؟    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    تجديد حبس 12 متهما في مشاجرة بسبب شقة بالسلام    وزير العمل: مدرسة السويدي للتكنولوجيا تمثل تجربة فريدة وناجحة    "الطفولة والأمومة": مبادرة جديدة لمناهضة العنف ضد الأطفال    وزير العمل ومحافظ الإسكندرية يفتتحان ندوة للتوعية بمواد قانون العمل الجديد    وزارة الأوقاف تعقد (684) ندوة علمية بعنوان: "خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي"    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    نقابة الموسيقيين تكشف تفاصيل التحقيق مع محمود الليثي ورضا البحراوي |خاص    من عبق الحضارة إلى إبداع المستقبل| فعاليات تبهر الأطفال في «القومي للحضارة»    أحمد التهامي يكشف كواليس العمل مع عادل إمام ويشاركنا رحلته الفنية|خاص    خاص.. الزمالك يفتح الباب أمام رحيل حارسه لنادي بيراميدز    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    "3 فرق يشاركون في دوري الأبطال".. خالد الغندور يزف خبرا سارا    النقابات العمالية تدشن لجنة الانتقال العادل لمواجهة التحول الرقمي    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    الحوثيون يحتجزون 10 أفراد من طاقم سفينة أغرقوها قبالة سواحل اليمن كانت متجهة لميناء إيلات    هآرتس تهاجم نتنياهو: ماكرون أصاب الهدف وإسرائيل ستجد نفسها في عزلة دولية    لماذا يتصدر الليمون قائمة الفاكهة الأكثر صحة عالميا؟    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    بالأرقام.. رئيس هيئة الإسعاف يكشف تفاصيل نقل الأطفال المبتسرين منذ بداية 2025    انتخابات مجلس الشيوخ 2025.. 8 محظورات خلال فترة الصمت الانتخابي    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    جولة مفاجئة لمحافظ الدقهلية للوقوف على أعمال تطوير شارع الجلاء بالمنصورة    «بيفكروا كتير بعد نصف الليل».. 5 أبراج بتحب السهر ليلًا    أُسدل الستار.. حُكم نهائي في نزاع قضائي طويل بين الأهلي وعبدالله السعيد    الخارجية الفلسطينية: الضم التدريجي لقطاع غزة مقدمة لتهجير شعبنا    أسعار الأسماك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 في شمال سيناء    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    الكهرباء: الانتهاء من الأعمال بمحطة جزيرة الذهب مساء اليوم    موعد مرتبات شهر أغسطس.. جدول زيادة الأجور للمعلمين (توقيت صرف المتأخرات)    السيطرة على حريق بمولد كهرباء بقرية الثمانين في الوادي الجديد وتوفير البديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذلك الرجل
نشر في التحرير يوم 26 - 09 - 2011

النقطة الأولى التى يرددونها بلا توقف هى أننا نكرم الموتى أكثر من اللازم، وأنه يكفى أى واحد أن يموت ليصير ملاكا نبيلا، كان ينثر الأزهار من حوله ويزفر المسك والعنبر. هذا صحيح إلى حد ما، لكن الرد على ذلك يأتى فى عبارة واحدة: الموت يجيد الانتقاء فعلا.. الموت يعرف كيف يختار ضحاياه. لهذا من النادر فعلا أن يموت أحد الأوغاد وأنت حى. لا بد أن يتمتع بصحة ممتازة ويجثم على روحك إلى أن تموت أنت. الموت ينتقى الفرسان، ويختار ضحاياه من بين كتيبة الشرفاء.. أين ذهب المسيرى والعم خيرى شلبى وصلاح جاهين واللباد وآخرون فروا من ذاكرتى فى هذه اللحظة بالذات؟ ولنفس الأسباب أحاول أن أتذكر عيوب حمدى مصطفى فلا أستطيع.. هذه حالة أخرى من الحالات التى يمارس الموت فيها هواية الانتقاء، وذوقه راق وعال جدا كالعادة. النقطة الثانية هى أننى عجزت عن كتابة حرف عندما توفى أبى. تصور!.. لم أكتب حرفا عن وفاة أبى رغم أننى لم أكف عن الثرثرة منذ تعلمت الكلام حتى هذه اللحظة.. السبب طبعا هو أنه كلما كبُرت الكارثة صار من العسير -وربما من المبتذل- أن تصبغها بالحبر وتضعها على الورق، وكما قال تشيكوف: «أعظم الخطب وأبلغها تلك التى تقال عند قبور الموتى، ليس لها أدنى تأثير على اليتامى والأرامل وأهل الفقيد الأصليين الذين يفضلون الصمت» لهذا أجد من الصعب جدا أن أكتب عن حمدى مصطفى. ما سأفعله ببساطة هو أن أخبرك من هو...
لو كنتَ شابا فأنت تعرف الاسم جيدا.. الرجل الذى استطاع أن يوجد مجموعة من سلاسل الجيب التى يقرؤها شباب العالم العربى فى كل صوب. وبشكل ما هو موجود فى خلفية الشباب الذين قاموا بثورة يناير.. فهم كانوا يستندون إلى تراث ثقافى معين، لعب فيه الرجل دورا كبيرا. لا يوجد مراهق لم يبدأ حياته مع هذه الكتيبات ثم يستمر فى قراءتها إلى أن يجد كتبا أخرى أو يتوقف نهائيا.. ولو كنت قد سمعت عن كتاب سلاح التلميذ أو المعلم أو رجل المستحيل أو ملف المستقبل أو فلاش.. لو كنت قد سمعت أى حرف عنى فالأستاذ حمدى مصطفى يقف هناك فى الظل، يسيطر على كل شىء ويمسك بكل الخيوط بين أنامله.. يحركها ببراعة واقتدار إلى أن جاء اليوم الذى عجز فيه عن تحريك أنامله بسبب الضمور العصبى الغريب الذى أصابه بسبب علاج خاطئ، وحول ذراعيه إلى عضو بلا نفع، وكانت هناك خادمة صغيرة تضع على أذنه الهاتف المحمول وتطلب له الأرقام التى يريدها وتدس السجائر بين شفتيه.. كانت هذه بداية النهاية.. رجل مثله اعتاد أن يعمل عشرين ساعة يوميا، واعتاد أن يمسك كل التفاصيل، لا يقدر على أن يظل حبيس بيته ثلاثة أعوام.
هذا الناشر الذى اشتهرت إصداراته فى كل العالم العربى من المحيط إلى الخليج كما يقولون، لم يكن مولعا بالظهور بأى شكل ولم يدل إلا بأحاديث صحفية محدودة.
عندما قررت أن علىّ أن أقدّم ما أكتبه للناس أو أصمت نهائيا، قررت أن أتجه فى كتاباتى للشباب. فى ذلك الوقت كان النشر صعبا جدا، وهذا يختلف عن ظروف اليوم، حيث يكتب الأديب كتابه الأول ثم ينشئ دار نشر. قابلت الأستاذ أحمد المقدم، مسؤول التوزيع، فرتب لى لقاء مع حمدى مصطفى ليقرر. وفى ذلك اليوم من شهر فبراير كانت الأمطار تنهمر والبرق يشق عنان السماء، مع ذلك الجو الغائم الذى يعطى انطباعا خادعا بأن الليل قد جاء بينما الوقت عصر، وأنا أمشى وحدى فى المنطقة الصناعية بالعباسية أبحث عمن يدلنى على المؤسسة العربية الحديثة...
لم أتبين حجم الإمبراطورية التى شيدها هذا الرجل الطموح، كما لم أتبين عدد إصداراته ولا تنوعها إلا عندما ذهبت هناك. هناك كان جالسا فى مكتبه يراقب كل شىء من وراء الحاجز الزجاجى كعادته، بتلك النظرة المتعبة نوعا.. النظرة الثاقبة التى تعلمت من طول الخبرة أن تزن من تتعامل معه. وعرفت سر نجاح هذا الرجل.. إنه متغلغل فى كل شىء، ويعى عملية النشر بكل دقائقها، ثم هو يثق فى ذوقه الخاص ثقة عمياء ويؤمن بأن ما يروق له سوف يروق للناس..
وعلى مدى تلك الأعوام رأيته مرارا يمسك بهذه الرزمة من الورق أو تلك يطالعها وقد رفع النظارة على مقدمة رأسه كعادته فى القراءة، والأوراق تحمل توقيع سيد الشماشرجى من تفهنا العزب أو إبراهيم الششماوى من خارصيت، وهو يلقى عليها نظرة خبيرة ويتساءل: ترى هل يصلح للنشر؟
فى ما بعد صرت ضمن الأسرة، عملت فى المطبخ.. وكانت هناك عوامل كثيرة لنشوتى بالانضمام لهذه الأسرة، لكن أهم هذه العوامل كان مقابلة الأستاذ إسماعيل دياب وأن يرسم لى أغلفتى.. إسماعيل دياب الذى كنت أعشق رسومه وأنا طفل بالمدرسة الابتدائية، وانعقدت بينى وبين الرسام العظيم صداقة قوية، عرفت منها أنه قارئ ممتاز وناقد رائع.. وأعتقد أن المودة كانت متبادلة إلى أن توفاه الله..
التاريخ الرسمى يقول إن حمدى مصطفى ولد عام 1928.. تخرج فى كلية التجارة ليعمل مع والده فى دار نشر هى (دار سعد مصر للطباعة والنشر) والتى صارت فى ما بعد (الدار القومية للطباعة والنشر). فى بداية الستينيات انفصل ليؤسس وحده المؤسسة العربية للطباعة والنشر، ويبدأ نشر الكتب الدراسية على مدى 50 سنة...عندما صارت قدمه راسخة كناشر قرر أن يتجه للنشر الأدبى، فهو لم يكف عن اعتبار النشر رسالة.. الكتب الدراسية تحقق الربح، أما الكتب الأدبية فهى رسالته الحقيقية فى الحياة، واختار أن يقدم القصص التى يقرؤها الشباب على شكل روايات مصرية للجيب. كان يعى بالضبط دوره فى توجيه النشء لقيم البطولة وحب الوطن.. وقد اختلفنا أكثر من مرة فى هذه النقطة، لأننى أرى فى هذا نوعا من التلقين المدرسى، لكنه كان يعى حساسية ما يقدمه وحساسية السن التى يخاطبها، لذا كان هناك كثير من المحاذير التى تختلف عن أى نوع آخر من الأدب.
التحق د.نبيل فاروق والأستاذ شريف شوقى بالمؤسسة بعد نجاحهما فى مسابقة أعلنت عنها المؤسسة فى الصحف.. وبعد أعوام انضم للمؤسسة خالد الصفتى ورؤوف وصفى والعبد لله ومحمد سليمان عبد الملك، ومن هؤلاء من اتجه للسينما والتليفزيون بعد ذلك.. كما أنه -حمدى مصطفى- أصدر سلسلة «سلة الروايات» التى تقدم أعمال الشباب فى شكل مسابقة دائمة. هناك عشرات العناوين المهمة، كما أنه أعاد إصدار سلسلة «كتابى» الرائعة لحلمى مراد التى اندثرت أو كادت.
استمر النشر الأدبى على مدى 30 عاما وبيعت هذه الروايات القصيرة من المشرق إلى المغرب.
نالت إصداراته جائزة سوزان مبارك فى أدب الأطفال، كما نالت جائزة أحسن كتب الأطفال من تونس عام 2005.
كما قلت سابقا فقد قضى آخر أعوام من حياته فى المنزل بسبب مضاعفات إصابته نتيجة علاج خاطئ للأعصاب تلقاه فى منتجع سويسرى. وكتبت أنا عن ذلك فى حينها، كما أنه خاض معركة الكتاب الخارجى الشهيرة مع الوزير أحمد زكى بدر. لكنه استمر فى إدارة كل دقائق المؤسسة إلى أن توفاه الله فى 21 سبتمبر 2011، بعدما أسهم فى تكوين شخصية وتفكير جيلين.
ليرحم الله حمدى مصطفى.. لقد فقدْنا رجلا عظيما وفارسا حقيقيا .. وفقدتُّ أنا أبًا روحيا آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.