حي دائم الزحام ولا يهدأ. صف عمارات تبدو كعبوات متطابقة. تلك العمارة القديمة التي طالما ميزتها بشبابيكها الزجاجية الخضراء. الشمس غائبة رغم إنها الثالثة ظهرًا. شتاء. غيوم. الزيارة كانت مفاجئة. البيت مظلم. أحواض السمك لا زالت هناك في مكانها. حتى اليوم، حين تقف أمام أي حوض سمك، تفعل ما علمه لها؛ تنقر بأناملها عليه في حركات متتالية وسريعة، فيتجمع السمك كله ويأتي ناحيتها. رغم المرض ووهن الحظات الأخيرة، هو المسئول الوحيد عن مواعيد أكل السمك والعناية بنظافة أحواضهم. حجرته تنبعث منها رائحة موت قادم. نائم. فقد الكثير من وزنه ومن طوله. ضئيل الحجم في سرير كان يملأ نصفه حين كانت تلهو جانبه في النصف الأخر. فتح عينيه ثم تنفس بعمق وقال "أخيرًا"؟. لم يكن نائم. كان هارب من الألم. منذ خمس أعوام، تم التشخيص. الكذب أصل أي خراب. الخبث شكل من أشكال الكذب. حين تخلل الخبث ورم جعله مميت؛ سرطان. هربت من الزيارة بالتأجيل تارة وبالأعذار تارة أخرى، ليس لثقل هذا النوع من الزيارات التي تحرج فيها من الصمت وحين تتكلم يكون الكلام المكرر أكثر إحراجًا، السبب هو ذلك الحاجز النفسي بينها وبين رؤية هزيمة الأقوياء. لواء جيش. يُحكى إنه في مرة مش شدة ضربه لعسكري، تحطمت ساعته الرولكس، فضاعف ضربه له لغضبه على ساعته باهظة الثمن حتى تركه بين الحياة والموت. يتحول ليصبح شديد الرهافة وطيبة القلب حين يتعلق الأمر بأسرته وبعائلته وتحديدًا بالأطفال. بالنسبة له، كانت هي الطفلة المفضلة بينهم جميعًا. ألعاب، اسكتشات ضخمة للرسم وألوان تتذكر أشكالهم جيدً، وكتب، وحلوى غريبة النوع، وكلام سويًا كالكبار، وغناء، وخصام وصلح. تجمعها بيه أكبر عدد من صور الطفولة. لأنهم قالوا "خلاص بيموت" قررت أن تزوره.
الحديث مقتضب وثقيل. أشتكى أن أولاد الكلب كلهم يتمنون أن يموت، وهي نفت ذلك. أشتكى من قسوة درس الزمن الأخير؛ بعد أن تنتهي المصالح وتنسحب منك السلطة والقدرة على إنجاز المصالح وانتفاعهم من الواجهة الإجتماعية، تصبح مجرد هم وإزعاج، وهي لم تنفي ذلك. ثم سأل بعصبية العجز عن كتابها الذي عرف إنه نُشر مؤخرًا وتهكم قائلًا إنه قد يكون نهشه الضعف ولكنه لم يصاب بعد بالعمى. كانت تعرف إنه يسأل عنه وإنه سيسألها عنه. أخرجته من شنطتها. أخذه. سكتا لثواني. أعطاها ظهره ونام. هل هو غاضب منها؟ من تأخيرها؟ أم هو فقط يحتاج للراحة؟ هل ذلك معناه أن ترحل؟ لف لها مرة أخرى وقال إنه لن يعطيها رأيه في كتابها إلا إذا زارته مرة أخرى ثم أعطاها ظهره ثانية. اقتربت وقبّلت جبينه. ملمس جلده شديد الخشونة والحرارة والإحمرار.
بعدها بأيام، لم يعد يستطع أن يتابع أحواض السمك، ثم مات. لم تذهب للجنازة ولم تحضر العزاء. تلك المراسم تليق أكثر بالغرباء، فرصتهم للمجاملة. كان الأهم ذلك الإحساس بأنه كان ينتظرها ليموت. هل كان يحبها حقًا بهذا القدر؟ هل يمكن أن تكون بتلك الأهمية ليؤجل الموت من أجل أن يراها هي للمرة الأخيرة؟ هل كانت لا تزال المفضلة بينهم جميعًا؟ هل يخوننا تقيمنا لمدى قوة علاقتنا بالأخر وأهمية وجودنا بالنسبة له؟ هل تأخرت؟ أم ذلك كله ترتيب زمني إلهي لا دخل لها به؟
حي دائم الزحام ولا يهدأ. صف عمارات تبدو كعبوات متطابقة. تلك العمارة القديمة التي طالما ميزتها بشبابيكها الزجاجية الخضراء. حرارة الشمس لا تطاق. صيف. تجمع عائلي كامل، فقط ينقصه. أحواض السمك فارغة. بعد ثلاث سنوات وأربعة أشهر، حجرته كما ما هي، فقط تنفصه. في وسط مكتبته، مررت عينيها بين أسماء الكتب حتى توقفت عند كتابها. فتحته لتجد ملاحظات نقدية مكتوبة بخط مهتز، حتى ثلثه فقط.