مصر تعود إلى نفسها. تسترد روحها الأصيلة وطنًا يحتضن كل أبنائه ويعلم الدنيا كلها جوهر الدين وقيمة التسامح. زيارة رئيس الجمهورية المستشار عدلى منصور للمقر البابوى للتهنئة بعيد الميلاد المجيد تقول -بكل وضوح- إن هذه هى مصر الحقيقية، وليست مصر التى يريدها دعاة التكفير الذين يزرعون القنابل بدلا من المحبة، ويتصورون أن مصر يمكن أن تسجن فى كهوفهم المظلمة الجاهلة والجهولة. كان عبد الناصر هو من أشار على صاحب الكرامات البابا كيرلس بضرورة أن يكون للكنيسة الوطنية المصرية مقر لائق بها. وعندما تم اختيار الأرض بالعباسية تبرعت الدولة رغم الظروف الاقتصادية الصعبة والحصار الأمريكى بمبلغ كبير للبناء. كان للبابا كيرلس أيامها زيارة شهيرة دائمة لرئيس الجمهورية فى مكتبه. وكان منزل الرئيس مفتوحا أمام صاحب الكرامات فى أى وقت يمنح البركة للأبناء ويدعو للوطن. وقصة الأبناء مع الكاتدرائية أصبحت معروفة، حيث فوجئ البابا كيرلس يوما بأطفال عبد الناصر يحملون له «الحصّالات» التى يوفرون فيها قروشهم ويطلبون التبرع بها لبناء المقر البابوى. وفتح الرجل «المنديل المحلاوى» الذى كان يحمله دائما ووضع فيه ما كان فى «حصّالات» الأطفال. وفى الكنيسة قام المساعدون بعدّ ما فى المنديل، فإذا به المبلغ المطلوب كقسط أخير من ثمن الأرض، زائدا عشرة جنيهات أخذها المحامى الذى ذهب بالأموال فى اليوم التالى لتكون كافية يومها للمصاريف الإدارية. وليبدأ بعد ذلك البناء ويضع عبد الناصر الأساس مع البابا كيرلس، وفى حضور إمبراطور الحبشة وعدد كبير من الضيوف والزعماء الأجانب. لم تكن مصر يومها قد دخلت فى دائرة التطرف التى انفتحت أمامها الأبواب منذ السبعينيات. ولم تكن مخططات الأعداء قد تمكنت من إدخال المنطقة فى حروب الطوائف وصراعات الأديان، لتستنزف قوى الوطن العربى وتمزق أوصاله وتسيطر على ثرواته وتحدد هى مستقبله. كانت مصر فى تلك الأيام تقود الأمة إلى طريق الحرية والكرامة، وتبنى نفسها من نقطة الصفر، وتعلى مبدأ المساواة بين كل أبنائها. حارب الكل أعداء الوطن، وشارك الجميع فى بناء النهضة. أتذكر فى حرب 56 كيف كانت الكنيسة المرقسية فى مدينتنا «بورسعيد» المكان الذى يحتمى فيه أبطال المقاومة، جنبا إلى جنب مع أشهر المساجد، وأتذكر أن ثلاثة أرباع شوارع مدينتى كانت تحمل أسماء شهداء حروب الحرية ولا تفرق بين مسلم ومسيحى جمعهما شرف الدفاع عن الوطن ونبل الاستشهاد فى سبيله. ثم أسترجع أعواما من محاولات زرع الفتنة واختطاف روح مصر الحقيقية. هذه السنوات التى أوصلتنا إلى حافة الهاوية مع حكم الإخوان الفاشى وحلفائه من جماعات الإرهاب. وكيف كان الله رحيما بنا، لأن أعداء الوطن لم يعرفوا مصر أبدا، ولم يدركوا أنها يمكن أن تضحى بالكثير إلا أن تُختطف روحها أو يجرى إغراقها فى بحر التطرف والكراهية، وهى التى لم تعرف مطلقا إلا المحبة والاعتدال والوسطية وعناق الهلال مع الصليب. العام الماضى وحده يكفى دليلا على صلابة وحدتنا الوطنية، وعلى عظمة هذا الشعب، الذى لم يستطع تجار الدين وخائنو الوطن أن يجروه إلى الفتنة التى كانت كل الظروف مهيأة لها. العام الماضى وحده يكفى ليقول للدنيا كلها إن الحضارة الحقيقية تعيش هنا فى صدور ملايين المصريين الذين حموا مصر ومنعوا الكارثة، وأسقطوا الفاشية وتصدوا للمؤامرة، وخرجوا فى 30 يونيو ليعبروا عن الروح الحقيقية لهذا الشعب، وليستردوا مصير وطنهم بأيديهم. العام الماضى وحده يكفى لكى نقول باطمئنان كامل إنه لا مستقبل للإرهاب فى وطن اخترع المحبة، ولا مكان للتطرف فى بلد يحتضن الأزهر الشريف والكنيسة المصرية. كل التهنئة لأشقائنا فى الوطن فى عيد الميلاد المجيد. المجد لله فى الأعالى ولمصر السلام. كل سنة ومصر فى طريق الخير والتقدم، يرعاها الله ويبنيها شعبها العظيم بالعلم والعمل، وبقلوب تملؤها المحبة لله والوطن.. تنتصر للحياة فى وجه أعداء الحياة.