طلبت منى أن أقرأ قراءة صامتة.. قالت: «يعنى تقفل بُقك وتقرا بعنيك» ذبابة.. ذبابة فى أنفى، تدفع نفسها صعودًا، ذبابتان أمام عينى، ذباب عديد، هش الذباب يتطلب يدًا، ويداى تتشبثان برأس أمى، تزحزحان طرحتها، بينما تتدلّى ساقاى على صدرها وظهرها كأنهما تلفيحة أبى. لم تعد تحملنى بين يديها كما كانت تفعل فى السابق، صرت أثقل من أن تتحمّلنى ذراعاها، تحملنى على كتفها التى تؤلم مؤخرتى، تسند ظهرى بيد وتحمل حقيبتى المدرسية باليد الأخرى، وتضرب بقدميها الأرض باعثة هبّات من الغبار الندىّ ذى الرائحة الأليفة الخانقة، أرى جبهتها تنتج العرق مع ما فى جو الصباح الباكر من برودة، أراها تبتسم من تحت أنفها، أم أنها تكشّر ألمًا؟ تقول: الشنطة تقيلة قوى يا أحمد، فيها إيه؟ فأتذكر الكراسة الجديدة فأقول بمجهود أستجمع له العون من كل جسدى، مجهود تهتز له رأسى، وتلتوى ذراعاى، فتضطر أمى إلى إسناد ظهرى بحرص أكبر: «ألاسة تديدة بب بس، واحدة بس». تركنى العيال وحدى فى الفصل وخرجوا جريًا إلى حجرة الحاسب يتسابقون بسيقانهم الصلبة، أنا لا أحب السيقان الصلبة، أحب السيقان الطرية، سيقان أو سوق، الكلمتان صح جمع ساق، كما قالت الأبلة إيمان، أنا أحب الأبلة إيمان كثيرًا، خصوصًا عندما تحملنى بين ذراعيها، رائحتها حلوة، لا كرائحة أمى، ليست حلوة كرائحة الصابونة، أحلى، وليست كرائحة المدينةالمنورة التى يضعها أبى حين يشد البردعة على الحمار ويأخذنى أمامه أحيانًا. عاد بعض الأولاد مندفعين متصايحين وحملونى فى ما بينهم من ذراعى وساقى، وخامس حمل حقيبتى، فى هذا الوضع بان سقف الفصل أمام عينى، ثم سقف الطرقة ثم السماء، أرى جذوع زملائى تتمايل حولى كعيدان الذرة، أرى وجوههم تصحبنى عبر السحب والنور المبهر، أعجبنى ذلك ولم أكن أريد لهذا الوضع أن ينتهى، وسمعت أحدهم يقول ضاحكًا: أحمد المحمول بتاع الفصل، أعجبنى ذلك جدًّا. كانت الأبلة إيمان تصر على أن أقرأ عندما يحين دورى فى حصة القراءة، ولقد كنت أحاول جهدى أن أقرأ من أجلها، فتخرج الكلمات من فمى حروفًا متناثرة، كما أن رقبتى تلتوى غصبًا عنى فتأخذ عينى بعيدًا عن الكتاب، لكنها ذات مرة جلست بجوارى وطلبت منى أن أقرأ قراءة صامتة، قالت: يعنى تقفل بُقك، وتقرا بعنيك، أنا مش عايزة أسمعك، عقلك هو اللى هيسمعك. لهذا أيضًا أنا أحب الأبلة إيمان. كنت أقرأ، حين سمعت أحدهم يصرخ فى التليفزيون، نظرت فرأيت رجلًا بلحية هائلة يخبط يديه على المكتب أمامه صارخًا: المرأة محمولة على أقربائها، أعجبنى ذلك، أتمنى أن أقابل هذه المرأة المحمولة، مثلما أننى أحمد المحمول، بل الأحلى أتمنى لو كانت الأبلة إيمان هى المحمولة.