من يقرأ التاريخ سيدرك أن مصر كانت من الدول السباقة فى منطقة الشرق الأوسط فى إقامة حياة نيابية وحزبية، إذ عرفت مصر الحياة النيابية منذ عام 1866 حين تم تأسيس «مجلس شورى النواب» وكان يضم 75 عضوًا منتخبا، ورغم الملاحظات العديدة على هذا المجلس فإنه أصبح بعد سنوات قليلة برلمان الثورة العرابية وأطلق عليه وقتها «مجلس النواب المصرى، ثم جاءت مرحلة جديدة بإعلان دستور 1923 الذى كان بمثابة نقلة نوعية فى إقامة حياة نيابية سليمة فى مصر، خصوصا بعد اعتراف بريطانيا بأن مصر دولة مستقلة، وظلت الحياة النيابية المصرية تتطور على فترات متقطعة حتى ثورة يوليو. وبعد ثورة يوليو تم تشكيل مجلس نيابى عام 1957 تحت مسمى «مجلس الأمة» وكان هذا المجلس أول مجلس تُمثَّل فيه المرأة، ومع صدور دستور عام 1971 تم انتخاب مجلس نيابى جديد تحت مسمى «مجلس الشعب» والذى أعقبه تأسيس مجلس الشورى، واستمرت الحياة النيابية بعد ذلك، وإن كانت تعتمد على أغلبية الحزب الحاكم إلا أنها شهدت فى بعض دورتها معارضة قوية، خصوصا فى برلمان 1979 وبرلمان 2005. ورغم الجزء البسيط الذى سردناه عن الحياة النيابية فى مصر والتى استمرت لأكثر من 140 عاما فإن هذا لم يشفع لدى أهل السياسية لكى يتم بناء نظام برلمانى قوى بعد ثورة 25 يناير، فأخذوا فى التخبط المستمر وغير المبرر وكأن التاريخ وجد فقط للخلاف عليه وليس لقراءته والتعلم منه. ولعل ما يثار فى تلك الأيام من محاولة تسويق فكرة أن يكون النظام الانتخابى القادم بنظام القائمة النسبية أو بنظام الثلثين للقائمة والثلث للفردى هو خير مثال على هذا التخبط، فرغم أن النظامين لم يراعيا مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة والمواطنة، ورغم الطعن على دستورية هذه الأنظمة كما حدث فى برلمان 1987 وبرلمان 1990 وبرلمان 2012، فإن هناك البعض من أهل السياسة والأحزاب مصرون على أن تحتكر الأحزاب الانتخابات بتطبيق نظام القائمة النسبية، والذى يصبح الناخبون طبقًا له مخيرين فقط لانتخاب نوابهم من بين من تدرجهم الأحزاب فى قوائمهاك. وهذا يجعلنى أخص بالذكر أكمل قرطام، رئيس حزب المحافظين سابقا، من ضمن الأقلام الرشيدة التى رفضت هذا النظام، حيث كانت له مقالات عديدة فى «المصرى اليوم» عارض فيها بشدة الأخذ بنظام القائمة النسبيه لما فيها من حَجْر على إرادة المواطن المصرى ورأيه سواء كان ناخبا أو مرشحا، خصوصا أنه تم تطبيقه فى دولةٍ، الأحزابُ فيها ناشئة والديمقراطية وليدة. اهتدت الدولة أخيرًا إلى ما نادى به أكمل قرطام، خصوصا فى مقاله «النظام الرئاسى هو الأنسب» بتاريخ 27/2/2012، والذى اقترح فيه وقتها أن تلغى نسبة العمال والفلاحين وتستبدل بنسبة من الشباب، وأن لا ينص الدستور على النظام الانتخابى وأن يترك ذلك للتشريعات، والذى اقترح فيه أيضا أن تقسم البلاد إلى دوائر صغيرة تجرى فيها الانتخابات بالطريقة الفردية، أو يتم الانتخاب على أساس الثلث للقوائم الحزبية والثلثين للفردى على أن تعطى للأحزاب ميزة الترشح على المقاعد الفردية أيضا. ولعلى أعتقد أن الرأى الأخير كان وما زال الأنسب فى التطبيق العملى، فهو من جهة يعطى أبناء الشعب وهم الأغلبية الحق فى الترشح على ثلثى المقاعد الفردية البرلمانية، ومن جهة أخرى يعطى الأحزاب ميزة إيجابية فى الترشح على ثلث المقاعد البرلمانية، ومن ثم تبدأ الأحزاب فى بناء كوادرها والعمل فى ظل منافسة هى الأوقع فى الوقت الحالى، خصوصا أن الأحزاب لم تستطع كسب ثقة الشارع، سواء قبل أو عقب ثورة يناير، ولربما خير دليل على ذلك هو عزوف النشطاء السياسيين عن الانضمام للأحزاب، أى بمعنى أصح سيكون هذا النظام بمثابة مرحلة انتقالية تنتقل خلالها الأحزاب من حالة الخلل والانفصال عن الشارع وعالم السياسة إلى مرحلة الممارسة التدريجية للحياة النيابية بشكل أكبر وأوقع. وأخيرًا أتمنى أن يأخذ المشرع فى اعتباره أن النظام الانتخابى يجب أن يكون صريحًا وليس على هوى أغلبية معينة أو أحزاب بعينها، وأن الثورة حرّكها أفراد من الشعب وليس أحزاب أو جماعات، وأن التاريخ الآن يسجل لنا جميعا مواقفنا، فأى محاولة لمجاملة الأحزاب أو الجماعات على حساب الوطن سوف تأتى بنتيجة عكسية وستتحمل الأحزاب عبئًا فى إدارة الدولة لن تقدر عليه، ومن ثم ستنهار سريعا وستنهار معها الحياة النيابية مرة أخرى، ونحن الآن نقف فى مهب الريح فى مرحلة لا تحتمل التجارب الخاسرة.