فى مشاهد قليلة جدا ربما لم تتجاوز خمسة أو ستة تابعت عمر الشريف فى الفيلم المغربى «روك القصبة»، كان مسيطرًا بقدر ما كان شفافًا ومؤثرًا، اسم الفيلم عنوان لأغنية ترددت داخل الأحداث. إنه «حسن مولاى» الثَّرى المتوفى الذى يقيم فى المدينة الساحرة «طنجة» برحيله يُفتَح الباب لكل التساؤلات المسكوت عنها فى تلك العائلة الصغيرة التى نكتشف أنها من الممكن تَردُّدها داخلنا جميعا. غالبا هى صدفة لا أتصورها مقصودة رأيتها بالمهرجان وهى أن نفس هذه «التِّيمة» الدرامية المأخوذة عن مسرحية «أغسطس مقاطعة أوساج» شاهدناها فى فيلم يحمل نفس العنوان بطولة ميريل ستريب وهو نفس الدور الذى أداه عمر فى الفيلم المغربى، الفيلمان من خلال الموت يكشفان كل ما هو على السطح، الفارق أن الفيلم الأمريكى أشار إلى المسرحية الثانية كأن شيئا لم يكن، أما المعالجة الدرامية فإن ميريل ستريب شغلت بعد رحيلها كل الأحداث وكانت طرفًا فى ما يجرى من انشقاق أُسرى بل هى التى كانت تحرك دائما الذروة الدرامية نحو الحافة حتى يحدث الصدام الحتمى، بينما يبدو عمر الشريف مثل طيف يتابع ما يجرى من بعيد، وعلاقته فقط حاضرة مع حفيده. اللون الأبيض هو الذى يغلف الحياة فى البيت المغربى والجلباب الأبيض هو أيضا الذى يسيطر على المشهد، فى المغرب طقوس دفن الموتى تقتضى ثلاثة أيام للعزاء، مع اللقطة الأولى نرى عمر الشريف بمزاج نفسى وفنى متميز ونرى أيضا طُهر ونقاء وشفافية الموت على ملامحه، فهو قد غادر الحياة توًّا، فى أثناء إعداد الجسد للموت نتابع كيف أن الحياة تتضاءل جدا فى نظر هؤلاء المسؤولين عن الدفن ويصبح الأمر مجرد أداء وظيفة يسارعون فقط بتنفيذها فى أقل زمن ممكن وبلا مشاعر. الشقيقات الثلاث والأم والخادمة وشذرات لشىء غامض بين ربة الأسرة أرملة عمر الشريف التى أدت دورها النجمة الفلسطينية هيام عباس والخادمة، لا نكتشف حقيقته إلا قرب النهاية عندما نتعرف على ابن الخادمة الذى هو ليس ابنًا شرعيًّا لتلك الأسرة لكننا نعرف أنه قد اعترف فى وصيته بشرعية هذا الابن، وتتغير قواعد الميراث بدخول الابن طرفًا الذى أصبح سِكّيرا ثم ما يجرى بعد ذلك، وهو أننا نكتشف أنه قد أقام علاقة مع شقيقته وهو لا يدرى وكانت حاملًا وتجرى عملية إجهاض وتموت فى لندن، ولا يكتشف أنها شقيقته إلا فى أثناء توزيع التَّركة، كل هذا الثقل الدرامى يحمِّل العلاقة العائلية ما لا تطيقه كان من الممكن أن يكتفى السيناريو بكشف وفضح ما يجرى دون كل هذا الصخب، الكاتبة والمخرجة ليلى مراكشى أثقلت على نفسها وعلينا بكل هذا الزخم الدرامى الذى يتجاوز حدود المسموح، عُمق المسرحية العالمية هو أن نتأمل تلك العلاقات بين الأشخاص داخل العائلة عندما يكشفها الموت، كانت المعالجة فى الفيلم الأمريكى للمخرج جون ولز التى أعدَّها كاتب المسرحية الأصلية تريسى ليتس تميل أكثر للتأمل العقلى حتى إن حديث المائدة الذى امتد مثلًا قبل الدفن ظل 20 دقيقة فى الفيلم الأمريكى، بحالة من التألق فى الإبداع السينمائى وأيضا الفكرى، بينما فى الفيلم المغربى كان هناك التعبير الحركى بالغضب والعنف هو المسيطر وتضاءل فى المشهد كثيرا البُعد الفكرى بالقياس على «روك القصبة»، يتعرض السيناريو إلى قواعد الميراث وبالطبع الفيلم لا ينتقد الشريعة لكنه فقط يتأمل دوافعها. عمر الشريف نراه أمام قبره وهو يتحدث عن الديدان التى بدأ تتعرف على جسده المستسلم للتراب، ويتابع كلب يبول فوق المقبرة بسخرية لاذعة يتعجب من جرأة الكلب على الإتيان بهذا الفعل. العلاقة الخاصة بين عمر الشريف وحفيده تظل تحمل الكثير من الدهشة وهى إضافة للعمل المسرحى الأصلى تبدو رائعة حيث إن خيال الطفل هو الذى يخلق الصورة ويعيشها كواقع ويصبح من المنطقى بعد ذلك أن يُصبح وهو الوحيد الذى يراه بينما الآخرون لا يعايشون هذا الخيال، وتأتى اللقطة الأخيرة عندما ينظر الابن إلى جده ولا يراه وهكذا انتهت تلك الصورة، عمر الشريف شاهدناه فى «المسافر» فى مساحة أكبر لكنها لم تكن تحفر أى شىء فى العمق، هذه المرة ما يتبقى فى الذاكرة هو عمر الشريف «مولاى حسن» وكأن هذا الدور هو ترنيمته الأخيرة بعد أن أعلن اعتزاله، فكانت مسك الختام.