من الصعب أن نضع عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا، أندريه كارلوف، في إطار الجريمة عموما، أو في إطار العمل الإرهابي فقط. فهناك جملة من المحاور السياسية - العسكرية - الدبلوماسية تجمع تفاصيل المشهد العام لهذه الجريمة من جهة، والمشهدين الإقليمي والدولي من جهة أخرى. لا شك أن تركيا تعاني من مشكلات داخلية تضعها ضمن دول المنطقة التي تواجه الإرهاب، وعلى رأسها الخلافات الحادة بشأن سياسات أردوغان، والانقسام على شخصه وسياسات حزبه، والغضب في أوساط الأجهزة الأمنية التي لا يروقها تسريحُ عشرات الآلاف من موظفيها وعناصرها بعد الانقلاب الفاشل ضد أردوغان نفسه. هذا إضافة إلى التناقضات العميقة في حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي المحافظ الحاكم والذي يتزعمه أردوغان، وخصوصا بعد تهميش العديد من قياداته ومفكريه. وبالتالي، فالوضع داخل تركيا نفسها يمكنه أن يكون قد أسهم بدرجة أو بأخرى في تسهيل ارتكاب جريمة اغتيال السفير الروسي في أحد المباني التي تقع ضمن مبان أخرى مهمة في وسط العاصمة التركية أنقرة. ولكن من جهة أخرى، نكتشف أن جميع الأطراف المحيطة بالأزمة السورية مستفيدة تماما من هذا الحادث الإجرامي، سواء كان إرهابيا أو جنائيا. بمعنى أنه عملية اغتيال سياسي من الدرجة الأولى. ويبدو أن من يقف وراء العملية كان يتصور أن تضيف روسيا هذا العمل إلى إسقاط سلاح الجو التركي المقاتلة الروسية في العام الماضي. ومن ثم تتراجع عن تطبيع العلاقات مع تركيا، ويحدث تباعد ما بين البلدين، وخاصة في مسارهما المشترك الأخير في سوريا. لكن لم يحدث لا هذا ولا ذاك. بل حدث العكس تماما، حيث تم توسيع اللقاء الثلاثي بين وزراء خارجية روسياوتركياوإيران، ليلتئم بصيغة وزراء خارجية ودفاع الدول الثلاث في موسكو. وإذا كانت أجندة هذا اللقاء قد تحددت ببحث الوضع في حلب، وآفاق التسوية السياسية في سوريا، فقد أُضِيف إليها بند الإرهاب. بمعنى أنه قد تم توسيع شكل اللقاء، وتوسيع أجندته أيضا. هذا الحادث جاء ليعمل على تقريب مواقف موسكووأنقرة في سوريا. ولا تقتصر الفائدة على هذا المحور، بل تمتد إلى الطرف الإيراني الذي سيجد الفرصة الملائمة للاندماج في عمليات عسكرية وإنسانية كانت تجري ربما بدون رضائه الكامل، وربما بتهميش دوره إلى أقصى الحدود الممكنة. كما أن طهران باتت مستفيدة أيضا على مستوى مناوراتها مع الغرب من جهة، ومع الدول الإقليمية المعادية لها من جهة أخرى. وبالتالي، نرى أن وزيري دفاع وخارجية إيران يجلسان إلى جانب نظرائهما من روسياوتركيا في موسكو. لا شك أن هذا الحادث يوجه رسالة قوية وحادة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويحيطه هو وسياساته بالكثير من الشكوك. ومع ذلك، فتركيا مستفيدة بدرجة أو بأخرى، وبالذات في صراعها مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك بالاقتراب أكثر من روسيا واستخدام هذه الورقة من أجل المزيد من الضغط على الطرفين السابقين. لكن نظام الأسد مستفيد للغاية من مثل هذا الحادث، لأنه سيستخدمه ورقة للمزايدة ليس فقط ضد السعودية وقطر وتركيا وكل أعدائه المتخيلين، بل وأيضا ضد روسيا نفسها في حال قامت موسكو بمناورات لا تروق لنظام دمشق. ولا يمكن هنا أن نستثني الفوائد التي تعود على دول إقليمية حليفة لتركيا. إذ إن هذه الدول كانت تنتظر رد الفعل الحاد لروسيا وتراجع العلاقة بين موسكووأنقرة. وفي كل الأحوال هذه رسالة لأردوغان ليس فقط من الدول الإقليمية الحليفة له، بل وأيضا من جانب واشنطن وحلف الناتو اللذين لا تروقهما تلك العلاقات والتنسيقات بين روسياوتركيا في سوريا. هذا الحادث لن يؤثر على العلاقات بين موسكووأنقرة، بل على العكس تماما. ولن يؤثر على مسار العمليات العسكرية التي تقودها كل من روسياوتركيا في سوريا، لأن هناك تنسيقا جيدا يحتاج إليه الطرفان سواء برغبة منهما أو قسرًا. وفي كل الأحوال، يعرف الطرفان الروسي والتركي أن تحالفهما في سوريا مجرد تحالف تكتيكي على المدى القصير. وفي حال امتداد هذا التحالف إلى المدى المتوسط، فمن الضروري أن تظهر شروط قاسية، على رأسها علاقة تركيا مع حلف الناتو، ومع دول الخليج، ومع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فمن الصعب أن نتحدث عن حلف جديد يضم روسياوتركياوإيران، ولا يمكن الحديث أيضا عن أي تحالفات في مواجهة الغرب، لأن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب جاء بأجندة ستغير من طبيعة العلاقات الإقليمية والدولية. ومن المعروف أن واشنطن هي التي تقود حلف الناتو، وتحدد العديد من محاور الأمن والدفاع في أوروبا، ولا تزال تتمسك -ومعها أوروبا- بالعقوبات ضد روسياوإيران. وبطبيعة الحال، هناك محاولات روسية متعددة لاختراق العلاقة بين أوروبا والولاياتالمتحدة، وبين تركيا وأوروبا، وبين تركياوالولاياتالمتحدة أيضا.