تشهد لجنة الخمسين لتعديل الدستور جدلا شديدا حول عشرات المواد، وقد امتد الجدل ليشمل مؤسسات الدولة المصرية، وشهدنا حالة من الصراع على الاختصاصات بين مكونات المؤسسة الواحدة، كما سعى البعض إلى إعادة إحياء خطوط الانقسام الدينى من جديد عبر إثارة قضايا تتعلق بهوية الدولة وتفسير مبادئ الشريعة. من ناحية لا بد من التأكيد على أن تكوين لجنة الخمسين جاء معبرًا عن كل ألوان الطيف فى المجتمع المصرى، ولا يمكن لأحد الادعاء بأن هناك تيارا أو فصيلا أو اتجاها غير ممثل فى اللجنة، وفى الوقت نفسه تتوطن أمراض المرحلة داخل اللجنة، فمصر تمر منذ منتصف السبعينيات بمرحلة تدهور مستمر، تدهور عبّر عنه السادات فى التعديلات التى أدخلها على دستور 1971، الهدف منها كان الحصول على تأييد التيار الدينى من ناحية، وفتح المجال أمامه للترشح لأكثر من دورتين كما كان ينص الدستور. وتدهور إضافى تمثل فى التشوهات التى أحدثها مبارك فى ذات الدستور، بعضها بهدف إضفاء شكل ديمقراطى فى البداية، ثم جاءت التشوهات الأكبر التى كانت تمهد لتوريث السلطة لجمال مبارك. وقد مهد كل ذلك للتشوهات الكبرى فى دستور 1971 على يد جماعة الإخوان ورفاقها عام 2012 والتى حولته إلى دستور لدولة دينية، لا سيما مع صياغة عدد من المواد، أبرزها المادة 4 و219 وغيرها من المواد التى تقيد من الحقوق والحريات. طبعًا أدت هذه التشوهات والانتهازية السياسية للسادات وتوظيف الدين ورجاله فى السياسة، ومؤامرات مبارك الهادفة إلى توريث السلطة لنجله الأصغر، ثم تقدم الجماعة والتيار السلفى إلى الصدارة والانفراد بإدخال تعديلات تضع مصر على طريق الدولة الدينية بمعنى «الثيوقراطية»، كل ذلك أدى إلى حالة من التخلف العام فى المجتمع المصرى طالت كل المجالات وجميع القطاعات، فمصر التى كانت فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين أكثر تقدمًا وتطورًا من عديد من دول جنوب أوروبا من النواحى السياسية والثقافية تعرضت لموجة تخلف اعتبارًا من مطلع السبعينيات وجاءت الحقبة النفطية لتكتسح الوهابية الثقافة المصرية فتتراجع مصر عشرات الدرجات، وتصبح أكثر تشددًا من ثقافة بدوية صحراوية. من هنا جاء دستور 1971 عاكسا لبداية التدهور الشامل فى مصر، ومثل كل تعديل طرأ على هذا الدستور موجة من التراجع فى البلاد، فالشعب المصرى متدين بطبعه من قبل أن تفد إليه الأديان الإبراهيمية، لا ينتظر إعلانا عن هويته بمادة دستورية، كما أن تدينه ليس فى حاجة إلى التحصين بنص دستورى، فهذه المزايدة التى أقدم عليها الساسة الانتهازيون دفعت بنا إلى سجال دينى - طائفى لم نخرج منه حتى اليوم، وعكس ذاته داخل لجنة الخمسين فشهدنا سجالا دينيا/ طائفيا، وصراعات بين هيئات ومؤسسات وجماعات على نحوٍ أدى إلى تغييب قضايا الوطن الكبرى، وبات السجال مصلحيا، دينيا وطائفيا، بل وفئويا. لكل ذلك يبدو واضحا أن الوضع الراهن فى البلاد ليس مناسبا لكتابة دستور دائم لمصر يضعنا على أول طريق المستقبل، دستور يستلهم القيم الإنسانية من عدل، ومساواة، وحرية، وغيرها من القيم، دستور يليق بمصر والمصريين، ومن ثم يبدو مهمًّا للغاية أن يحدث التوافق داخل لجنة الخمسين على التعديلات التى ينبغى إدخالها على دستور 2012. وفى تقديرى أن إزالة عدوان الجماعة ورفاقها على دستور 1971 سيكون كافيا لإحداث توافق حول دستور مؤقت للبلاد يجرى العمل به لمدة عشر سنوات على سبيل المثال، ويجرى التحضير فى النصف الثانى من هذه الفترة لكتابة دستور دائم للبلاد، والدستور المؤقت ليس بدعة، بل عمل به كثير من دول العالم فى مراحل انتقالية ريثما يتم الاتفاق على كتابة دستور دائم للبلاد. وبما أننا نتحدث عن دستور مؤقت للبلاد فلا داعى لاعتماد النظام المختلط الذى يجمع ما بين الرئاسى والبرلمانى، فنحن فى حاجة فى هذه المرحلة الانتقالية إلى نظام رئاسى يأتى برئيس قوى يمارس صلاحياته لاستعادة دولة القانون وفرض النظام. ولسنا فى حاجة إلى نظام مختلط يتقاسم فيه الرئيس ورئيس الوزراء السلطة التنفيذية، لأن هذا التقاسم سيتحول إلى تنازع ويبث أجواء الانقسام فى البلاد، ولنؤجل أى صيغة أخرى من صيغ الحكم إلى الدستور الدائم عندها يمكن اعتماد أى نظام يجرى التوافق حوله برلمانى، رئاسى أو مختلط. المهم أن نتوافق على أن الدستور الذى نحن بصدد الانتهاء من إدخال تعديلات عليه سيكون مؤقتا لحين كتابة دستور دائم، وأن مصر بحاجة إلى نظام رئاسى فى الفترة القادمة، وهى فترة سريان الدستور المؤقت.