الدولة في المنطقة العربية تبدو في مهب رياح الإقليم والعالم الهادرة بالعنف والإرهاب والنزعة الشعبوية الصاخبة التي تعكس فشل عديد من النخب السياسية الحاكمة والمعارضة والأحرى الطبقات السياسية الغربية وغيرها التي أصبحت منعزلة عن واقعها، وعن مجتمعاتها في نوادي نخبوية تبدو مغلقة، ومن ثم يبدو واضحاً تمدد اليمين عموماً والمتطرف خصوصاً في فرنسا، وصعود شعبوي بلا خبرة ولا دراية سياسية إلى سدة الحكم في البيت الأبيض وزعامة الحزب الجمهوري في الولاياتالمتحدةالأمريكية، على نحو كشف عن عدم استيعاب الطبقة السياسية لطبيعة التغيرات الاجتماعية، وفي المزاج العام السياسي للمواطنين، وعجز الأجهزة والآلات الإعلامية الكبرى عن فهم طبيعة ما يحدث في الواقع، والفشل في التأثير على اتجاهات الرأي العام، وانكشاف ضعف مؤسسات وأجهزة استطلاعات الرأي العام عن التنبؤ وتحليل البيانات ومعهم ما يطلق عليهم خبراء السياسة. عالم بات تهيمن عليه المديوكراتيه، والمديركر، وعالم عربي تسيطر عليه المنيوقراطية والمونيوكر- نخب ما دون الحد الأدنى من الكفاءة والخبرة والقدرات السياسية، أو التكنوقراطية أو البيروقراطية- عالم تسيطر عليه ثقافة التفاهة. ساعد على انتشار الشعبوية والاتجاهات النكوصية تجاه العرق واللون والتشظي إلى جماعات على نحو يُعيدُ النظر في كثير من المفاهيم التي شاعت مع العولمة، وها نحن ننتقل إلى ما بعدها، وربما العودة إلى بعض ما قبلها .... إلخ. في قلب هذه التغيرات الهادرة –خروج بريطانيا من المجموعة الأوروبية، وانتخاب ترامب، وصحوة اليمين، والحنين إلى القوميات ... إلخ – تبدو دولة وستفاليا وما بعدها موضوعاً للنقاش والجدل، وفي القلب منه الصراع على الدولة وهشاشتها في العالم العربي في أعقاب انهيار بعضها في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وضعف دول أخرى، وانفصال أجزاء من الدولة في السودان كما حدث في جنوب السودان وإقامة دولة هناك. الدولة الوطنية – وفق التسمية الشائعة وغير الدقيقة –ولدت ومعها إعاقاتها الهيكلية ومشكلاتها بعد الاستقلال، حيث بدت وكأنها جزء من أرث المرحلة الكولونيالية على أساس أن آباء الاستقلال اعتمدوا على الهياكل التي تأسست أثناء مراحل الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي. من هنا كانت ثمة شكوك حول شرعية الدولة الوطنية – باستثناء الدولة المصرية والمغربية- باعتبارها ابنة المرحلة الاستعمارية. ذهبت التيارات الإسلامية السياسية إلى جحد شرعية الدولة على أساس أنها جاءت على أنقاض انهيار الخلافة العثمانية، ناهيك عن شكوك حركة القوميين العرب ونظائرهم في الدولة الوطنية لأنها دولة تجزئة في مواجهة الفكرة القومية العربية الجامعة، والدولة العربية الواحدة، أي دولة الوحدة المبتغاة، ورغماً عن هذه الشكوك المتعددة الاتجاهات والأهداف، إلا أنها أصبحت أحد حقائق السياسة في المنطقة العربية، وباتت جزءاً لا يتجزأ من الجغرافيا السياسية لها، إلا أن أحد أكبر المشاكل الهيكلية للدولة الوطنية، أنها لا تعدو أن تكون مشروع دولة أو دولة / أمة في طور البناء، لأنها لم تتأسس على الأمة، وأنها هياكل تبدو حديثة شكلياً على واقع تاريخي ليس كذلك، لأنه انقسامي من حيث مكوناته المجتمعية العرقية والقومية والطائفية واللغوية والمناطقية، وأن دولة ما بعد الاستقلال لم تستطع أن تؤسس لتكامل وطني من خلال مؤسسات المشاركة السياسية، ودولة القانون والحق، والمواطنة والمساواة، وإنما من خلال مفهوم الغلبة والحديد والنار والقهر، ناهيك عن فشل مشاريع التنمية، والتصنيع على نحو أدى أزمات اقتصادية هيكلية ومستمرة. الدول الريعية هي التي تمكنت من مواجهة بعض مشاكلها بسبب عوائد النفط الهائلة، والتي أهدرت في الاستهلاك الوحشي، والفساد ... إلخ. تأسست أطر وهياكل الدولة الوطنية على أبنية عشائرية وقبلية وطائفية ومناطقية منقسمة، وتعايشت بقوة القمع والاستبداد والأوتوقراطية، ولم تستطع في عمومها إيجاد حلول مؤسسية للانقسامات البنيوية في تركيبة المجتمع وعلاقته بالدولة، أو الدين والسياسة، ومن هنا انتشر العنف المجتمعي، والتمردات المناطقية، واتسعت الهوة بين الأغنياء والمعسورين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة لهذه المجتمعات. من هنا انتشر التطرف الديني، وتشكلت المعارضات الإسلامية السياسية المسلحة، وجماعات الإرهاب باسم الدين، كنتاج لفشل الأنظمة التعليمية ومناهجها الدراسية، وتدهورت الكفاءات، وانتشرت التفاهة كثقافة وتكوين وصل إلى أعصاب الدولة ومؤسساتها المختلفة، ومن ثم انكشفت في أعقاب الانتفاضات الجماهيرية، واندلاع الحروب الأهلية، وانهارت الدولة ومؤسساتها في عديد من البلدان العربية. من هنا عاد الحديث عن مسألة الدولة الوطنية ومشاكلها الهيكلية، وأزماتها مجدداً كجزء من قضايا الحوار والبحث الأكاديمي السياسي والاجتماعي والتاريخي والثقافي في العالم العربي. يمكن القول أن الدولة العربية اختلطت مفهومياً وإدراكياً بالنظام السياسي، أو السلطة السلطة السياسية الحاكمة، أو العائلة الحاكمة، أو الأسرة، أو القبيلة أو بعض العشائر .. إلخ، من هنا لم تستطع الدولة أن تؤسس حضورها الرمزي والتخييلي في الوعي الاجتماعي، والمخيلة الجماعية، وفي الوعي السياسي المشوش والمضطرب بين الدولة والسلطة والنظام والحاكم. لم تستطع النخب الحاكمة منذ الآباء المؤسسين لدولة ما بعد الاستقلال أن يحفروا في الوعي السياسي والاجتماعي الجمعي معنى الدولة كشخصية، معنوية تتجاوز تخيلياً ورمزياً سلطاتها الثلاث، وبقية مكوناتها، ومن ثم زراعة ثقافة الدولة في العقل العام والوعي الاجتماعي للشعب بكل مكوناته وشرائحه الاجتماعية، ومن ثم لا نستطيع القول أن هناك ثقافة عربية حول الدولة، وإنما ثمة خلط بينها وبين أجهزة الحكم لاسيما الحكومة وأجهزة القمع المشروع الذي استخدم لحماية الحكم وفرض سلطانه بالقمع والحديد والنار. ثمة أزمة شرعية للدولة وللنظام معاً، نظراً لأن تجسيدها في الوعي الجمعي اعتمد على الخلط فيما بينهما، ولأن الغلبة والقوة هي أساس السيطرة على السلطة ومقاليدها وليس الإرادة العامة، ولا حكم القانون وسيادته وإنما القانون والسلطة اعتمدا على مشيئة الحاكم الفرد ومراكز القوة حوله. من ثم لم تستطع نخب ما بعد الاستقلال أن تزرع وتبلور ثقافة مؤسسية، ترتبط ببناء المؤسسات العامة، وقواعد عملها في إطار القانون من ثم كان التمييز بين المواطنين بعضهم بعضاً هو ممارسة شائعة في الدول العربية وأنظمتها الشمولية والتسلطية والعائلية، وذلك على أساس النوع الاجتماعي، أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو المنطقة، من هنا تحولت الدساتير والقوانين إلى محض أشكال على وجود الدولة، ولم تطبق في الواقع الاجتماعي والسياسي إلا فيما يحقق مصالح الحكم والنخبة السياسية الحاكمة. ساهم التلاعب بالدين في السياسة في تفاقم أزمات الدولة وأنظمة الحكم ما بعد الاستقلال، لأن توظيف الدين وشعاراته وتأويلاته في السياسة، أدى إلى اعتماد أنظمة الحكم الدين كأداة للشرعية السياسية، واستخدامه كأحد أدوات القمع الرمزي في مواجهة معارضيها، لاسيما من التيار الإسلامي ومن خلاله تم فرض منظومة من القيود القانونية على المجال العام المغلق أو المحاصر، وعلى حريات الرأي والتعبير، وحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وعلى الحريات الشخصية، على نحو ما تم رصده في عديد الدراسات العلمية، والتقارير العربية والدولية. في ظل تراكم الأزمات الكبرى وتفاقمها أصبح إعادة النقاش السياسي والأكاديمي والسوسيولوجي حول الدولة، من الأهمية بمكان، في ظل احتمالات انقسام بعض الدول العربية، وإعادة رسم الخرائط السياسية في المنطقة في أعقاب "الربيع العربي"، والفوضى والعنف والإرهاب، وانهيار بعض الدول والحروب الأهلية، والسؤال ما هي مشكلات الدولة المصرية الهيكلية وأزماتها؟ وهل هناك إمكانية لإصلاحها، خاصة أنها الدولة الأمة – أو شبه الأمة مع دولة المخزن في المغرب – الأساسية في العالم العربي، خاصة في أعقاب الانتفاضة الثورية المجهضة في 25 يناير 2011، وعودة بعض أشكال السلطوية السياسية في المراحل الانتقالية الثلاث؟ هذا ما سنجاوب عليه في المقال التالي.