طرحنا أمس سؤالًا مؤداه: هل يمكن إصلاح المنظومة الدولية وفى القلب منها مجلس الأمن الدولى، أم أن القضية أكثر تعقيدًا من ذلك؟ حتى نجيب عن هذا السؤال نعود إلى مرحلة مهمة من مراحل تغيّر النظام الدولى، وهى تلك المرحلة التى أعقبت سقوط سور برلين وبدء عملية تهاوى نظم الحكم الشيوعية فى شرق ووسط أوروبا، لنقف على طبيعة ما جرى، ولماذا لم يتم تغيير المنظومة الدولية فى ذلك الوقت، وهل يمكن تحقيق ذلك مستقبلًا؟ فى أعقاب التحولات الثورية التى وقعت فى شرق ووسط أوروبا بدءًا من عام 1989، وعبّرت عن نفسها فى تهاوى أنظمة الحكم الشيوعية وسقوط حلف وارسو، ثم تفكّك الاتحاد السوفييتى فى ديسمبر 1991، شهد النظام الدولى تغيّرات عميقة، ذهب أحد المفكرين -وهو الأمريكى اليابانى الأصل فرانسيس فوكوياما- إلى وصفها بأنها غير مسبوقة، وأنها تمثّل نهاية التاريخ على أساس أن المرحلة الجديدة شهدت انتهاء آخر المعارك الكبرى فى التاريخ الإنسانى فى ظل سيادة الأيديولوجية الليبرالية والنظام الرأسمالى. وذهبت الغالبية العظمى من الدارسين للنظام الدولى والعلاقات الدولية إلى وصف تلك التغيرات بأنها تمثّل نهاية لنظام عالمى، هو نظام القطبية الثنائية الذى تشكّل فى أعقاب الحرب العالمية الثانية على أساس أن أحد قطبى النظام قد انهار. وأن ما حدث عام 1991 لا يختلف كثيرًا عن السوابق التى شهدها النظام الدولى فى نهاية الحروب الكبرى، والتى أسفرت عن ظهور تحولات رئيسية فى هيكل وتوزيع القوة والقواعد التى تحكم التفاعلات الدولية. هناك من أكد أن ما حدث منذ أوائل التسعينيات كان عبارة عن نهاية لنظام دولى، وبداية لتبلور ملامح نظام جديد، وقد استند هذا الرأى إلى المؤشرات التالية: - انهيار الكتلة السوفييتية: فقد انهارت الكتلة التى كان يهيمن عليها الاتحاد السوفييتى والمتمثلة فى حلف وارسو ومجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة، وقد جرى الانهيار دون حرب عسكرية وفى فترة قصيرة جدًّا. - انتهاء الشيوعية كقوة سياسية نتيجة تهاوى أنظمة الحكم فى شرق أوروبا ووسطها، كما أن التحولات فى الصين تشير إلى تحركها صوب الرأسمالية إن لم تكن الليبرالية، والدول الشيوعية الأخرى -كوبا وكوريا الشمالية وفيتنام- غير قادرة على تقديم بديل دولى. - تبدّل العلاقات بين القوى العظمى، حيث أدّى تفكك حلف وارسو وتحلل الاتحاد السوفييتى إلى انتهاء الصراع الدولى الذى ساد منذ عام 1945، كما انتهى سباق التسلّح الذى تبارت فيه واشنطن وموسكو سواء مباشرة، أو من خلال الحلف الذى تقوده كل منهما. - التحوّل إلى التكتلات الاقتصادية الكبرى: حيث لم تعد الدولة القومية قادرة على القيام بفاعلية بوظائفها الاقتصادية التقليدية، كما أن الشركات متعددة الجنسيات وعابرة القوميات لم تعد قادرة -إلى حد كبير- على التنافس فى شكل فردى نظرًا إلى بروز مراكز صناعية وتجارية جديدة تتنافس بقوة مع المراكز الصناعية والتجارية الغربية. ومن ثَم لجأت الدول القومية إلى الدخول فى تجمعات اقتصادية ضخمة كوسيلة لمواجهة المنافسات الفردية من ناحية أولى، كما أنها تشكل استجابة إلى التحوّل فى النظام الدولى من طابعه السياسى والرمزى إلى طابع أكثر أهمية وذى صبغة ملموسة وهو الطابع الاقتصادى والتجارى من ناحية ثانية، كما أنها تشكّل تسليمًا بانكماش دور الدولة القومية فى إدارة الموارد المتاحة لديها من جانب ثالث. ومن قبيل ذلك كان تجمّع النافتا والتجمع الاقتصادى لدول الباسيفيك وتجمع الدول الخمس عشرة النامية. - تغيّر الخريطة السياسية للدول: حيث تفكّك الاتحاد السوفييتى إلى خمس عشرة دولة، كما تفكّكت يوجوسلافيا إلى خمس دول، وانشطرت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين، وتوحّدت ألمانيا التى كان تقسيمها أبرز نتائج الحرب العالمية الثانية، وبين شطريها جرت ممارسات المواجهة فى الحرب الباردة. ويرصد دارسو النظام الدولى والعلاقات الدولية ثلاث سوابق لهذه التحولات الكبرى، الأولى بعد الحروب النابليونية، حيث أعاد مؤتمر فيينا عام 1815 تشكيل النظام الدولى، وتمكّن من حفظ الاستقرار لمدة تقترب من القرن حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. والثانية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أعادت معاهدة فرساى عام 1919 تشكيل النظام، إلا أن انسحاب الولاياتالمتحدة من هيكل النظام فتح المجال أمام سقوطه مرة أخرى بعد نحو عقدين باندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939. والثالثة بعد الحرب العالمية الثانية عندما بادرت الدول المنتصرة فى الحرب ببناء عالمى جديد فى يالتا وبوتسدام.