تتواصل عمليات الشد والجذب فى الأزمة السورية بين معسكرين. الأول بقيادة روسيا والصين، والثانى بقيادة الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا. وإذا كانت سوريا قد وافقت على مبادرة روسيا بشأن أسلحتها الكيميائية، وما استتبع ذلك من إجراءات، فإن الغرب ما زال يلوح بعصا الحرب بين الحين والآخر، للضغط من أجل تنفيذ شروطه بأقل الخسائر الممكنة من جهة، ولضمان مصالحه فى سوريا وفى المنطقة مستقبلًا من جهة أخرى. شواهد كثيرة تشير إلى أن قرارات الحكومة السورية الرسمية تُتَخَذُ فى موسكو، وبالتالى، يتساءل مراقبون وخبراء فى السياسة الدولية عن المقابل على المديين القريب والمتوسط، غير أن شواهد أخرى ومعلومات متناثرة تشير إلى نجاح الدبلوماسية الروسية فى عقد صفقة متعددة المحاور فى شكل رزمة تضم الملفين السورى والإيرانى، وهو ما توضحه حالة الارتياح السياسى التى رافقت انعقاد الجمعية العامة الأخيرة والغزل الصريح، وإن كان متحفظا حتى الآن، بين واشنطنوطهران. وإذا كانت روسيا قد ظهرت بمظهر مختلف فى الأزمة السورية، على الأقل حتى الآن، عما كان عليه الأمر إزاء الأزمتين العراقية والليبية، فهذا يعود إلى أسباب آخرها سوريا نفسها، إذ وجدت موسكو نفسها بعد نحو عشرين عاما من انهيار الاتحاد السوفيتى فى مآزق عديدة على خلفية الوعود التى قدمها الغرب لها، ولم يتم تنفيذ أىٍّ منها. ويالتالى فروسيا تدافع عن مصالح جيوسياسية وجيواقتصادية وأمنية مباشرة تخصها هى بالدرجة الأولى. ومن ثم فالورقة السورية هى مجرد واحدة فى رزمة أوراق كثيرة تتبادلها واشنطن مع موسكو لضبط إيقاع مصالحهما الأكبر حول العالم وفيه، خصوصا أن مصالح البلدين العظميين لم تعد تتناقض على أسس أيديولوجية، بل على أساس المصالح الاقتصادية وتقسيم الكعكة الجيواقتصادية ومناطق النفوذ السياسية والأمنية. فى كل الأحوال، هناك معركة «عض أصابع» بين روسياوالولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا. وإذا كانت الاحتكاكات قد انتقلت من منطقة التهديد بالحرب أو شن عمليات عسكرية محدودة ضد سوريا إلى منطقة المساومات وتبادل الأوراق واعتماد الحلول الجزئية لأزمات حقيقية بين روسياوالولاياتالمتحدة كلها تجرى وأصابع كل بين أسنان الآخر. إن أهم تصريح صدر فى الآونة الأخير، أدلى به نائب وزير الخارجية الروسى جينادى جاتيلوف بأن «رد مجلس الأمن الدولى فى حال مخالفة سوريا القرار رقم (2118) يجب أن يكون متناسبا مع المخالفة وليس بالضرورة أن يجيز استخدام القوة»، وأوضح الدبلوماسى الروسى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولى أن يتخذ الإجراءات وفقًا للفصل السابع لميثاق الأممالمتحدة فقط بعد إجراء تحقيق مستفيض فى مخالفة محتملة، لكن ذلك ليس بالضرورة سيتمثل فى استخدام القوة، وأن أى خطوات يقوم بها مجلس الأمن الدولى يجب أن تكون متناسبة مع المخالفات، لأن البند رقم (21) ينص بوضوح على أن مجلس الأمن الدولى ينبغى أن يحقق بصورة مستفيضة فى أى مخالفات للقرار المتخذ». هكذا نجحت روسيا فى نقل سيناريو المفاوضات على الطريقة الإيرانية إلى الملف السورى، ولكن تظل الاحتمالات قوية بالنسبة إلى إمكانية التدخل الإسرائيلى العسكرى المباشر فى الأزمة السورية. إذ تتناسب الضمانات من جهة الغرب وروسيا بعدم المساس بأمن إسرائيل تناسبا عكسيا مع احتمالات تدخل إسرائيل بشكل مباشر. إن الولاياتالمتحدة ملتزمة أمام حلفائها الإقليميين قبل الدوليين بتنفيذ أجندة معينة فى المنطقة، وبالأخص فى سوريا والمناطق التى تشبهها. والحلفاء ملتزمون بالتمويل والتسليح والتدريب والدعم الإعلامى والسياسى وممارسة ضغوط فى ملفات معينة بالإضافة إلى الضغوط الأمريكية نفسها. بينما روسيا ملتزمة أيضا أمام كل من إيران وسوريا، ولكن الالتزامات هنا مختلفة نسبيا. فالتزامات موسكو أمام دمشق تخص المقابل فى العلاقات المستقبلية، لأننا كما قلنا إن القرارات الأساسية والسيناريوهات تُرْسَمُ فى الكرملين ووزارة الخارجية الروسية، وهو شكل من أشكال «التماهى السياسى» النادر فى التاريخ، ولكنه وارد عندما يتم التفاهم فى كل الملفات وكل التفاصيل. أما التزامات موسكو إزاء طهران، فهى شكل من أشكال تبادل المصالح، لأن هناك تناقضات حادة وعميقة بين مصالح روسياوإيران فى عديد من الملفات، وعلى رأسها ملف تقسيم قاع بحر قزوين الذى يمكن أن يكون إحدى أوراق اللعب بين القياصرة والملالى فى ما بعد. وهناك ملف آسيا الوسطى ومصادر الطاقة وطرق نقلها، والملف الأمنى فى أفغانستان، وملف الشرق الأوسط الذى أصبحت إيران تمثل فيه لاعبا لا يستهان به، وملف الأمن الخليجى! كل هذه ملفات ستصبح، شئنا أم أبينا، ملفات خاضعة للتفاوض حينًا، وللضغوط حينًا آخر، وللتعاون فى أحيان كثيرة بين موسكووطهران، خصوصا أن الأخيرة تظهر برجماتية هائلة فى التعامل مع أخطر الملفات، وعلى رأسها الملفان الإسرائيلى - الفلسطينى، وملف الأمن الخليجى. وإذا كانت الولاياتالمتحدة ومحورها الأوروأطلسى وحلف الناتو يعتمدون على تركيا كرأس حربة وكقوة ناعمة فى المنطقة، وذلك من أجل إبعاد إسرائيل عن الشبهات والصدامات المباشرة وحفاظا على أمنها من جهة، ومن أجل عدم تعريض جمهوريات الموز ومخازن الطاقة فى الخليج للخطر أيضا من جهة أخرى، فما المانع من أن تعتمد روسيا على إيران بعد أن تمهد الأرض جيدا حولها وأمامها، مما سيعطى فرصة لعودة موسكو إلى المنطقة بمنطق المصالح والقوة والتحالفات والأحلاف. فإيران تقف على أعتاب منظمة شنغهاى كعضو مراقب يتوق إلى تحقيق مصالحه عبر التناقضات الدولية، بالإضافة إلى عديد من المنظمات والمجموعات الدولية الأخرى مثل مجموعة بريكس. ولا يمكن أن نستبعد إمكانية الإعلان عن مجموعات ومنظمات أخرى أمنية، وهو ما كانت قد أشارت إليه موسكو منذ عدة سنوات بشأن إقامة منظومة أمنية خليجية، الأمر الذى رفضته الولاياتالمتحدة وتركيا ودول أوروبية كثيرة قبل أن ترفضه الدول الخليجية نفسها.