القراءة الإيرانية للانتخابات الرئاسية اللبنانية د. خليل حسين شكلت الانتخابات الرئاسية في لبنان محطات فارقة في تاريخه السياسي المعاصر، وباتت في كل مفصل منها صورة لأزمة وطنية تطورت وتعددت اشكال تداعياتها الداخلية والخارجية. وغريب المفارقات في ذلك سرعة التأثر والتفاعل بين مكونات الواقع اللبناني واستثمارات الواقع الاقليمي الذي يحيط به، ورغم تلك المفارقة التي لم تعد سابقة فإن خصوصياتها الحالية تعطيها دفعا آخر يُعبر عن متغيرات في الواقع الاقليمي للبنان وبخاصة بعد الخروج السوري منه وابرز صورة لذلك انتقال التأثير المباشر في الانتخابات الرئاسية من سوريا في الماضي القريب إلى شراكة ايرانية اساسية في هذا المجال. فبعد الدور المصري في فترة ما قبل السبعينيات، اعطيت سوريا دورا مركزيا اقليميا ترجم بشكل مباشر في لبنان،ونتيجة للعديد من الاسباب تمكنت ايران من الدخول المباشر في الحياة السياسية اللبنانية لتبدو في هذه الاثناء اكثر فاعلية من اي دور اقليمي آخر لجهة التأثير في قرارات مفصلية فيه ومنها الانتخابات الرئاسية، فكيف تقرأ طهران الواقع السياسي اللبناني والاقليمي؟ وكيف يمكن ترجمته سياسية في اوراق ايرانية متنوعة ومتعددة الاتجاهات والابعاد؟. تنطلق القراءة الايرانية للواقع اللبناني من خلفيات اقليمية ودولية قابلة للاستثمار على قاعدة حاجة طهران لأوراق تفاوضية في ملف البرنامج النووي، وهي تعتبر أولا وأخيرا ان امتدادات السياسات الخارجية لأية دولة اقليمية عظمي يعني قدرتها على امتلاك ادوات واذرع فاعلة وقابلة للحياة ومن هنا يفسر الاهتمام الايراني المتعاظم بالشأن اللبناني وابرز تجلياته ومظاهر عمليات احلال النفوذ الايراني مكان السوري، وما يعزز هذا الاتجاه مقاربة طهران للاوضاع السائدة اقليميا واعتقادها بالقدرة على استثمارها في الواقع السياسي اللبناني. فطهران تنظر إلى الوقع في لبنان انطلاقا من المشهد السياسي الاقليمي وتعتبر ان الاميركيين يتراجعون في كل المنطقة ويسعون إلى الحؤول دون خسائر جديدة لهم في لبنان فالمؤتمر الدولي الذي ستدعو إليه الإدارة الاميركية بهدف تحريك عملية السلام على المسار الفلسطيني سيفشل نظرا إلى مقدماته، فضلا عن انه يتجاهل تحريك سوريا ولبنان، فواشنطن بدلا من ان تسعى إلى الحصول على تنازلات من اسرائيل لمصلحة الفلسطينيين تضغط على الرئيس الفلسطيني ليقدم التنازلات. كما ان السياسة الاميركية في العراق لا تحتاج إلى كثير عناء لاكتشاف فشلها في السيطرة على الواقع الامني هناك وسط الحديث عن حاجتها إلى التعاون مع الاطراف الاقليمية الاخرى بهدف معالجة وضع العراق، واضطرار واشنطن إلى الحوار مع دول الحوار وتطبيق توصيات تقرير بيكر - هاملتون. كما ان السياسة الاميركية الضاغطة على سوريا لم تفعل فعلها وواشنطن مضطرة للعودة إلى صيغ التعاون والحوار مع سوريا في الاطارين العراقي والاقليمي. كما ان سياسة التلويح بالحرب والعقوبات عبر مجلس الامن تجاه ايران تراجعت بقوة، خصوصا حين عجزت اميركا وفرنسا عن حشد الموقف الاوروبي، خلال الاجتماع الاخير لدول الاتحاد الاوروبي لفرض عقوبات اضافية على ايران، بعدما كانت فرنسا تصدرت السعي إلى عقوبات جديدة. ما شكل فشلا للسياسيتين الفرنسية والاميركية بنظر طهران عززته عودة وكالة الطاقة الدولية إلى الامساك بالملف النووي الإيراني، مما يعني سحب هذا الملف من مجلس الامن الذي من المرجح ألا يعود إليه نهائيا، مع الانطلاقة الجيدة للتعاون بين طهران ووكالة الطاقة الدولية. اضافة إلى ذلك أن قمة دول آسيا الوسطى المحيطة ببحر قزوين، شكلت حدثا مهما كرّس التعاون بين هذه الدول، ومنها ايران، على معالجة شؤون المنطقة خصوصا امدادات النفط والانابيب نظرا إلى حاجة هذ الدول إلى مرور الامدادات إلى الخليج، مما أذى إلى تكريس اتفاقات ذات اهمية استراتيجية تضع مصالح هذه الدول فوق مصلحة بعضها مع الولاياتالمتحدة الاميركية. وفي ظل استمرار الخلاف على مشروع الدرع الصاروخية الاميركية، حققت زيارة الرئيس الروسي إلى طهران تعاونا روسيا - ايرانيا لم يسبق ان حصل يشمل الملف النووي، في سياق الاصرار الروسي على استعادة موسكو دورها على الساحة الدولية، والذي باتت واشنطن ترى فيه عود إلى الحرب الباردة، وما يؤكد ذلك ما قاله مرشد الثورة الاسلامية السيد علي خامنئي اثناء استقباله بوتين عن رغبته بتعاون بين روسيا قوية وايران قوية، مما يعني قيام ثقل دولي في وجه واشنطن في إطار هذا التعاون، كما ترى طهران ان خسائر واشنطن تتعاظم في آسيا، فهي على وشك خسارة افغانستان وربما باكستان بفعل سياساتها التي ادت إلى تنامي دور الاسلاميين المتطرفين، كما ان اخطاء السياسة الاميركية في المنطقة تتكاثر واخرها استفزاز تركيا عبر قرار الكونغرس تحميل انقرة مسؤولية المجازر ضد الارمن، مما سبب مشكلة بينها وبين واشنطن، وما يزيد الطين بلة ما يجرى حاليا في شمال العراق. ان قراءة طهران لهذا الواقع الاقليمي يعني اعتبارها ان واشنطن في عين العاصفة الشرق اوسطية القادمة، وهي اي واشنطن مضطرة لايجاد بيئة توافقية على انتخابات الرئاسة اللبنانية من منطلق ان لبنان بات الساحة الوحيدة التي مازالت تعتبرها مصدر دفع لسياسات واشنطن في المنطقة، وعليه تعتبر طهران ان ليس من مصلحة واشنطن الفراغ الرئاسي في لبنان الامر الذي يعطي طهران مساحة مقبولة للتحرك في اتجاه إيجاد صيغة توافقية حول اسم الرئيس العتيد الذي تأتمنه كل من ايران وسوريا. وإذا كانت هذه الرؤية تعتبر واقعية إلى حد ما، فثمة مؤشرات واضحة على خلاف ذلك، مفادها ان حسابات الربح والخسارة في ملف الانتخابات الرئاسية اللبنانية تعتبر ضربا في المجهول، وعند ذلك ربما تلعب جميع الاطراف لعبة أخرى وهي الفراغ باعتبارها تنتج خسارة لجميع الاطراف، إلا ان الفرق يكمن في حجم الخسارة لكل طرف ومدى استثماراته لاحقا في فرض الحل المناسب له، وهنا يمكن التمييز تحديدا بين الموقفين السوري والايراني في هذا المجال، وفي هذه الحالة تبدو طهران متوافقة إلى حد كبير مع الرؤية الواقعية للعبة القادرة على انتاج بيئات قابلة للاستثمار السياسي في غير مجال وعليه فإن الفراغ لا يناسب طهران في هذه المرحلة، فيما الموقف السوري يرغب في انتاج صيغة رئاسية مستنسخة لما قبل وبعد اتفاق الطائف. ان مصلحة ايران تقتضي القدرة على التحكم والاستثمار في الواقع اللبناني، وبخاصة في هذه المرحلة الدقيقة بالنسبة لها، فسياسة قلب الطاولة، أو لعبة حافة الهاوية يصعب التحرك فيها، ومن هنا نفسر المواقف الايرانية البراغماتية من جميع الملفات الداخلية اللبنانية وعدم لجوئها إلى مواقف ذات توجهات حاسمة، ذلك ما يظهر بشكل مباشر على سلوك المعارضة في لبنان وعدم لجوئها في كثير من المحطات الداخلية للحسم رغم قدرتها على ذلك. ان الاستحقاق الرئاسي اللبناني بات داهما على جميع اللاعبين فيه وباتت الخيارات تضيق بأصحابها شيئا فشيئا، وفي تلك الاحوال يصعب على اي طرف التكيف بمسارات مواقفه ويصبح اسير رد الفعل لا الفعل وهنا تكمن خطورة هذا الواقع على لبنان تحديدا، ففي عام 1988 ام تتفق دمشقوواشنطن على الرئاسة اللبنانية مما ادى إلى حكومتين متنافستين وفراغ رئاسي دفع لبنان ثمنه غاليا، ولم تنتج تلك الفترة سوى تسوية «اتفاق الطائف» فعلى اية اسس سترتكز المرحلة القادمة؟ ان قدر لبنان كما بات معروفا ان يعيش على التسويات الاقليمية والدولية سلما اهليا باردا يستمر في احسن احواله عقدا ونيفا من الزمن، فهل انتهى مفعول اتفاق الطائف والبحث جار الآن عن صيغ اخرى للبنان والمنطقة؟، ربما اسئلة مشروعة تحتاج إلى اجابات محددة وسريعة قبل فوات الأوان. وفي مطلق الاحوال فإن ظروف الدول الفاعلة في الشأن اللبناني صعبة ودقيقة الأمر الذي ينتج مواقف متشددة في مفاوضاتها واستثماراتها، وإذا كانت الاطراف اللبنانية سابقا تمكنت من قطف او استثمار اي مشروع حل لها في البيئة السياسية الداخلية، فإنها الآن غير قادرة على ذلك وفي احسن احوالها ستكون وقودا لصراعات اقليمية ودولية تطل برأسها على مجمل المنطقة، وبالتالي فإن اللاعبين اللبنانيين هم الاضعف بين جميع الفرقاء ان لم نقل «عدة شغل» لانتاج تسويات داخلية تعكس واقعا اقليميا ودوليا مستجدا، فهل يعي اللبنانيون ذلك؟، إن التوكيد في تاريخ لبنان الحديث كما المعاصر يثبت ان قرار اللبنانيين لم يكن يوما في ايديهم، والخوف اليوم ان يكون البحث جاريا عن صيغة للبنان تنهي صورته الحالية. ان المنطقة بجميع دولها وشعوبها تمر بظروف حرجة جدا، من افغانستان إلى العراق مرورا بإيران ولبنان وسوريا وفلسطين وصولا إلى السودان، منطقة تعج بالبراكين القابلة للانفجار في اية لحظة فهل تعي الدول المؤثرة في انتخابات الرئاسة اللبنانية ومن يمثلها في لبنان ذلك ام انها تعي والجميع يبحث عن الاوراق التي تحفظ مصالحه؟ على الارجح ان الجميع يعرف ذلك، ولكن .. على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ عن صحيفة الوطن القطرية 6/11/2007