ما يشهده لبنان في الوقت الراهن يمثل استمرارا للانقلاب الذي بدأ بالتمديد للرئيس السابق إيميل لحود في خريف العام 2004 علي الرغم من صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لم يكن القرار 1559 سوي نسخة عن اتفاق الطائف. كل ما نص في القرار تضمنه اتفاق الطائف. تكفي مقارنة بين النصين للتأكد من ذلك. لا توجد نقطة ما في القرار 1559 لم ترد في اتفاق الطائف الذي صار دستورا للبنان. لم يكن القرار 1559 سوي تأكيد لرفض المجتمع اي وجود مسلح علي الأرض اللبنانية باستثناء قوات الشرعية اللبنانية من جيش وقوي أمن. استهدف الانقلاب تثبيت واقع جديد نشأ في مرحلة ما بعد التوصل إلي اتفاق الطائف قبل عشرين عاما. يقوم هذا الواقع علي أن لبنان بلد صغير يدور في الفلك السوري وأن لدمشق وحدها الحق في تفسير اتفاق الطائف وتطبيقه بما يتناسب مع مصالحها الاقليمية واهوائها. كانت الخطوة الأولي في هذا الاتجاه التخلص من الرئيس الشهيد رينيه معوض علي طريق تكريس الواقع الجديد الذي يبدأ باعتراف اللبنانيين أن رئيسهم لا يمكن أن ينتخب إلاّ بعد موافقة دمشق علي اسمه وان الحكومات اللبنانية تصنع في سوريا وليس في لبنان. كان اغتيال رفيق الحريري بمثابة رسالة موجهة إلي اللبنانيين وإلي المجتمعين العربي والدولي فحواها انه لا مفر من الطائف، كغطاء للوصاية السورية علي لبنان. اما الطائف الآخر الذي يحلم به اللبنانيون، فهو مجرد وهم. بكلام اوضح، لا وجود لطائف غير الطائف السوري. ولذلك كان ذلك الغضب السوري الذي رافق صدور القرار 1559، لم يكن القرار سوي رد فعل من المجتمع الدولي... والعربي إلي حد ما علي استخدام الطائف في فرض وصاية علي لبنان واستخدامه "ساحة"، ليس إلاّ، يشن من خلالها المحور الإيراني- السوري حربا بالواسطة علي إسرائيل وعلي عرب وغير عرب من أجل التوصل في النهاية إلي صفقة معها او مع الولاياتالمتحدة علي حساب لبنان واللبنانيين. إلي الآن، لا يزال هناك رفض أمريكي لصفقة من هذا النوع، خصوصا أن في واشنطن أشخاصا يعرفون تماما ما الذي يريده السوري والإيراني من لبنان - الساحة. ولكن هل يبقي هؤلاء الأشخاص في مواقعهم في الإدارة وهل يبقي لديهم ما يكفي من النفوذ للحؤول دون عقد مثل هذه الصفقة؟ كل ما يمكن قوله في هذا المجال إن هناك وعيا عاما في واشنطن لخطورة أي صفقة علي حساب لبنان والانعكاسات السلبية لأي صفقة من هذا النوع علي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط في المدي البعيد وعلي النفوذ الأمريكي في المنطقة عموما في وقت تعرضت الهيبة الأمريكية لضربات مؤلمة، من بينها المواقف المتشنجة لحكومة بنيامين نتانياهو من الاستيطان... ما لا يدركه اللبنانيون في ضوء منع إيران والنظام السوري اللبنانيين من تشكيل حكومة برئاسة زعيم الأكثرية النيابية يمكن أن يمثل نجاحا للانقلاب. إنه انقلاب علي الطائف بمفهوميه العربي والدولي أولا. هل نجاح الانقلاب من النوع الموقت أم الدائم؟ لعلّ ذلك هو السؤال الكبير. لم يكن السوري يتوقع أن يؤدي اغتيال رفيق الحريري إلي خروج جيشه من لبنان واضطراره إلي ان يكون تحت رحمة الإيراني في الوطن الصغير. استطاع الإيراني، عبر ميليشيات "حزب الله"، التابعة له كلّيا، ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب العسكري السوري. هناك الآن، من خلال عرقلة تشكيل الحكومة محاولة سورية لتأكيد أن الطائف في لبنان يكون سوريا أو لا يكون. في المقابل، هناك محاولة إيرانية للانطلاق من القدرة علي عرقلة تشكيل الحكومة، اعتمادا علي سلاح "حزب الله" وعلي أداته المسيحية المعروفة، للانتقال بالانقلاب إلي مرحلة جديدة. تتمثل هذه المرحلة بالبحث في نظام جديد للبنان يقوم علي المثالثة. في النهاية لن يرضي النظام الإيراني بأقل من ان تكون له حصة ثابتة في لبنان وذلك في ضوء استثماراته الضخمة في البلد المستمرة منذ ما يزيد علي ربع قرن والتي مكنته من تحويل الطائفة الشيعية الكريمة إلي مجرد رهينة لديه. من هذا المنطلق، يبدو المطروح أبعد بكثير من تشكيل حكومة لبنانية برئاسة سعد الدين رفيق الحريري يمكن وصفها بحكومة صنعت في لبنان. المطلوب من سوريا العودة إلي الطائف السوري، فيما المطلوب إيرانيا تثبيت الثلث المعطل وتثبيت "المقاومة" في البيان الوزاري بهدف تثبيت الوجود الإيراني وتكريسه. نجح "الحرس الثوري" في انقلابه الإيراني، لماذا لا ينجح في انقلابه اللبناني؟ أليست بيروت مدينة ساقطة عسكريا في يد "حزب الله"؟ يبقي المطلوب لبنانيا. هذا المطلوب يعكسه السؤال الآتي: هل لا يزال اللبنانيون قادرين علي الصمود وتأكيد تعلقهم بالطائف اللبناني الذي يرفض في الوقت ذاته الوصاية السورية والمثالثة الشيعية السنية المسيحية التي تسعي إيران إلي فرضها؟ ربما كان ذلك هو التحدي الأكبر امام اللبنانيين في هذه المرحلة الحرجة. ما قد يساعدهم في صمودهم أن المنطقة كلها تبدو مقبلة علي تحولات كبيرة. من كان يصدّق أن اتهامات من العيار الثقيل للنظام السوري ستصدر عن مسئولين عراقيين بعد تفجيرات التاسع عشر من أغسطس الماضي في بغداد؟ من كان يصدّق أن تركيا تتجه إلي لعب دور القوة الاقليمية في الشرق الأوسط مبتعدة أكثر فأكثر عن إسرائيل؟ هل البروز التركي يساعد لبنان أم يجعل النظام السوري أكثر شراسة تجاهه؟ في كل الاحوال، لا بديل من الصمود. الأكيد أن الصيغة اللبنانية أقوي بكثير مما يعتقد كثيرون أن في دمشق أو في طهران... وحتي في واشنطن وفي إسرائيل نفسها.