المناقشات التى تدور حاليا حول المادة 219 من دستور 2012 هى مناقشات تدور تحت الأرض فى المنطقة السالبة أو تأخذنا إلى الماضى السحيق، فقد كان الوضع فى عهد مبارك عند المرحلة الصفرية، وجاء محمد مرسى لينقل مصر نقلة كبيرة إلى الوراء إلى المنطقة السالبة، أى أخذ المصريين إلى تحت الأرض وكتب لهم دستور يشبه مرحلته ويشبه جماعته ويشبه الخراب الذى حل بمصر فى عهده، والآن يعود المصريون لمناقشة المادة 219 ويعتبر بعضهم إلغاءها إنجازا ما بعده إنجاز، هذا معناه رجعونا مرة أخرى إلى المربع صفر، إلى ما قبل سقوط مبارك. علينا أن نتذكر أنه لأكثر من 20 عاما قبل سقوط مبارك ونحن نناقش باستفاضة عيوب دستور 71 وخطورة المادة الثانية، والآن تأخذنا المناقشات إلى نقطة أكثر سوءا بمناقشة عيوب دستور 2012 ومقارنته بدستور 71، فى غمار هذا الحديث السلبى نسى الكثيرون لغم المادة الثانية من الدستور، بل إن السياسيين يرتعبون من مجرد الإشارة إليها، معنى هذا أننا انحدرنا إلى ما هو أسوأ من عهد مبارك، فقد تم فتح نقاشات واسعة حول هذه المادة فى عهد مبارك، وصدرت بيانات عديدة تطالب بإلغائها أو تعديلها، بل وصفها الخبير الدستورى الكبير الدكتور يحيى الجمل بأنها مادة نفاق وضعها السادات لتمرير مادة أخرى وهى الخاصة بتمديد حكمه.. الذين يرتعبون من مجرد الاقتراب من المادة الثانية، بل ويزايدون عليها هم يدفنون رؤوسهم تحت الرمال مثل النعامة، خصوصا والكثير منهم يدرك أن هذه المادة كانت سببا فى إشاعة مناخ التطرف والمزايدات الدينية وظهور الأحزاب الدينية، وأن شعار الإخوان «الإسلام هو الحل» حصل على أكثر من حكم قضائى باستخدامه وفقا لهذه المادة، وأن مناخ الهوس الدينى هذا هو الذى أتى بالإخوان إلى الحكم بعد ذلك، وجعل شريحة كبيرة من المصريين تصوت للسلفيين وهم أكثر تشددا من الإخوان. وأزعم أن أى حظر للأحزاب الدينية فى الدستور الجديد سيتم الطعن بعدم دستوريته وفقا لهذه المادة التى يعتبرها الكثيرون مادة فوق دستورية وحاكمة للنظام العام، ينسون أيضا أن هذه المادة كانت سببا فى انتهاك الحق فى المساواة، والتضييق على الحريات، ومطاردة المبدعين، وصدور أحكام جائرة بحق العديد من المبدعين والمثقفين وغير المسلمين، وتفريغ الحقوق والحريات الأساسية من مضمونها، وتقييد المواثيق الدولية بقيد مطاطى غير معروف. وأن هذه المادة بنصها الحالى والسابق، مع الإصرار على عدم ذكر أى مصادر أخرى للتشريع، يجعل منها عمليا المصدر الوحيد للتشريع، مما يجعلنا ولو نظريا نقع فى دائرة الدولة الدينية الكاملة. وأن هذه المادة تخل بحياد الدولة تجاه الأديان المختلفة.. يحلو للبعض القول بأن هذه المادة تحدد هوية الدولة وكأن هوية مصر غير معروفة. مصر يا سادة احتفلت منذ أيام برأس السنة المصرية 6255 وبرأس السنة القبطية 1730 للشهداء، والمسيحية فى مصر يقترب عمرها من ألفى عام والإسلام حوالى 1400 عام، هذا ناهيك بالتراث والثقافة الفرعونية والقبطية والرومانية والإغريقية والعربية والمسيحية والإسلامية، كل هذا تعاقب وتفاعل وتراكم وتداخل وانصهر ليخرج لنا هوية مصر. الذين يريدون تحديد هوية مصر بهذه المادة هم ببساطة يحاولون إلغاء تاريخ وثقافة مصر قبل دخول الإسلام، يريدون تقزيم مصر والقضاء على ثرائها التاريخى المتعدد، يريدون تدشين دولة دينية إسلامية.. الذين يتلاعبون كذلك بمستقبل مصر بحجة أن الظروف الحالية لا تسمح بمناقشة هذه المادة حتى لا نعطى فرصة للإخوان وحلفائهم لكى يزايدوا على الوضع الراهن، هم يكررون نفس لعبة مبارك القميئة بالمزايدات الدينية على الإخوان حتى وصلت مصر إلى هذا الهوس الدينى المريع، كما أنهم يقيدون مستقبل مصر بقيود جماعة دينية متطرفة كل هدفها سحب مصر إلى الخلف مئات السنيين.. فى مارس 2007 شاركت مع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان فى جمع توقيعات على بيان يطالب بتعديل المادة الثانية من الدستور، ونشر منتدى الشرق الأوسط للحريات البيان وقتها على نصف صفحة فى جريدتى «وطنى» و«الأهالى» كإعلان، وقد طالب أكثر من مئتى مثقف من خيرة وقمم المثقفين المصريين بتعديل المادة الثانية بناء على المبادئ التالية:- 1. أن الإسلام ديانة غالبية المواطنين. 2. أن القيم والمبادئ الكلية للأديان والعقائد مصدر من المصادر الرئيسية للتشريع، بما لا يتناقض مع التزامات مصر طبقا للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، أو يخل بحقوق المواطنة أو بمبدأ المساواة أمام القانون. 3. أن التمتع بالحقوق والحريات المدنية لا يتوقف على العقائد الدينية للفرد. 4. ضرورة التزام كل أجهزة الدولة بالحياد إزاء الأديان والعقائد ومعتنقيها من المواطنين.. وقد كان أكثر من شخص من الموقعين على البيان من الذين تم اختيارهم مؤخرا فى لجنة الخمسين، ومنهم الشاعر الكبير سيد حجاب، والسياسى اليسارى المعروف الأستاذ حسين عبد الرازق، والمتحدث باسم لجنة الخمسين، الكاتب المعروف الأستاذ محمد سلماوى، بل إن الدكتور حازم الببلاوى رئيس الوزراء الحالى، كان من الموقعين على البيان، وقد اتصلت به وقتها من واشنطن فى أبو ظبى، حيث كان يعمل فى صندوق النقد العربى وقرأت له البيان ورحب بالتوقيع عليه وقتها.. وها أنا أطالبهم باسم مصر ومستقبلها أن يتبنوا ما وقعوا عليه من قبل، وأن يتجاهلوا هذا المناخ المشحون بالهوس الدينى، لأن الأجيال القادمة لن تعذرنا عندما نقدم لها دستورا يؤسس لدولة دينية، فهل نتحلى جميعا بالشجاعة والوطنية والاستقامة الفكرية ونطالب بدولة مدنية بالمعنى الحقيقى للكلمة بما فى ذلك إلغاء المادة الثانية أو حتى تعديلها؟ مجدى خليل ناشط حقوقى بارز ومدير منتدى الشرق الأوسط للحريات