ارتباط أقباط مصر بأرض الوطن أمر لا يستوعبه إلا من يعشق تراب هذا الوطن، يكفى أن نقول إن الأقباط يرون أن أرض الوطن أكثر قداسة من أى بقعة أرض أخرى على الكرة الأرضية، فلا توجد قطعة أرض أخرى تحظى بأولوية على أرض الوطن أو تزيد قداسة عن أرض مصر. علاقتهم بأرض مصر علاقة عشق تاريخى، ومن هنا يمكن أن نفهم سر هذه الرابطة التى تفسر لنا تحمل آلام ومعاناة فى مراحل تاريخية مرت عليهم، فضلوا الاستشهاد على أرض الوطن والتحول إلى جزء من ثراه على الرحيل كما فعلت شعوب أخرى. فهم سر هذه الرابطة يشرح لنا ببساطة شديدة لماذا يتحمل الأقباط الآلام والمعاناة؟ ولماذا لا يستقوون على الوطن مهما بلغت شدة التمييز واقتربت من حدود الاضطهاد؟ تلاحم الأقباط مع المصريين المسلمين دفاعا عن أرض الوطن ضد كل غزو خارجى مهما كان لون ودين وطائفة الغازى، تكاتفوا فى مواجهة الحملات الصليبية، ورفضوا الحماية الأجنبية، تعاملوا مع كل محاولات الغزو من منطلق وطنى خالص، رفضوا كل دعاوى الحماية الأجنبية أو إثارة قضاياهم من منطلق دينى، رفضوا رفضا قاطعا كل دعوات استقواء على الوطن، وفى حروب مصر مع إسرائيل قدموا نماذج رائعة فى عشق الوطن والدفاع عن ترابه، كان الوطن يشغل الأولوية لديهم على الدوام، كان المنظار الوحيد الذى منه ينظرون إلى كل القضايا ويحددون موقفهم منها، كان الوطن هو العامل الوحيد الذى عبره يتحدد الموقف. تلاحموا مع أشقائهم المصريين المسلمين فى الثورة المصرية التى اندلعت فى الخامس والعشرين من يناير 2011، وقاوموا حكم المرشد والجماعة وواجهوا ظلم تيار الإسلام السياسى بكل قوة وشجاعة، لم ترهبهم تهديدات الجماعات المتشددة، فقد شعورا أن الوطن يختطف، وفى سبيل استعادة الوطن كانوا على استعداد لدفع الثمن، وقد دفعوه عن طيب خاطر، شاهدوا بأعينهم كنائسهم تحرق ومقدساتهم تدنس ومقتنيات الكنائس تسلب، ورموزهم الدينية يساء إليها، شاهدوا منازلهم تقتحم وممتلكاتهم يعتدى عليها، شعروا بالحزن والمرارة، لكنهم لم يثيروا الموضوع من أرضية دينية، بل وطنية، مؤكدين أن الوطن كله يدفع ثمن التخلص من حكم المرشد والجماعة. لم يطلبوا حماية خارجية ولا تدخلا أجنبيا، كيف يستقوون على الوطن الذى يعشقون ترابه؟ حدث هذا بينما سجد أعضاء فى الجماعة شكرا لله على اقتراب سفن حربية أمريكية من الشواطئ المصرية، ظنا أنها جاءت لضرب جيش مصر! عموما تطلع الأقباط إلى وقف كل ما تعرضوا له على مدار الأشهر الماضية من عمليات قتل، اعتداء وسلب ونهب ممتلكات، تطلعوا إلى وقف كل ذلك مع بسط الدولة المصرية سيطرتها التدريجية على الأوضاع فى البلاد، تطلعوا إلى وقف عربدة جماعات العنف والارهاب لا سيما فى صعيد مصر، فقد بدا واضحا أن الدولة المصرية أسقطت الصعيد من حساباتها على النحو الذى ترك مرتعا لجماعات العنف والإرهاب من ناحية ومجموعات البلطجية الذين مارسوا عمليات البلطجة على الأقباط هناك من خلال فرض إتاوات عليهم (وتماشيا مع اللحظة الراهنة يطلقون عليها جزية) يضعون الأيدى على ممتلكات الأقباط هناك ويقومون بعمليات تهجير قسرى للأسر التى لا قدرة لديها على دفع الإتاوة. يحدث كل ذلك دون تدخل من البوليس، الذى يبدو أنه اعتاد على رؤية مثل تلك الممارسات حتى بات الأمر معتادا لديه، تصلهم المعلومات بفرض إتاوات، وسطو على ممتلكات دون أن يحركوا ساكنا، وهو ما يحدث حاليا فى عدد من قرى الصعيد، قرية دلجا نموذج على كل ما سبق قوله، وهو أمر لم يعد مقبولا واستمراره سوف يسبب شرخا فى جدار الوطن، لكل ذلك أحسب أنه بات حتميا أن تتحرك الحكومة المصرية تتبى خطة متكاملة لإعادة السيطرة على كل المناطق لا سيما فى صعيد مصر وتبنى سياسة جديدة مبنية على مبدأ المواطنة، مع ضرورة إصدار قانون جديد حاسم لمناهضة كل أشكال التمييز فى المجتمع المصرى وفرض عقوبات رادعة لأى نوع من التمييز وتطبيقها بحسم ودون تردد. إذا تحقق ذلك فسوف تنتشر ثقافة المواطنة ومناهضة التمييز، فكل الشعوب تغلبت على التمييز الذى كان منتشرا بها من خلال القانون أولا، وعبر سن قوانين صارمة تفرض عقوبات قاسية فيتوقف التمييز، خوفا من العقوبة، وبمرور الوقت يتحول الالتزام بهذه القوانين خوفا من العقاب، إلى ثقافة تنتشر فى المجتمع وتلتزم بها الأجيال الجديدة. لكل ذلك أحسب أنه بات حتميا أن تتحرك الحكومة لإنهاء ظاهرة البلطجة على الأقباط لا سيما فى صعيد مصر، ثم تصدر الحكومة قانون محافحة التمييز وتجريمه، والذى يتحول بمرور الوقت إلى ثقافة راسخة لدى الشعب. المهم أن تبدأ العملية أولا بفرض السيطرة الأمنية الكاملة وإنهاء ظاهرة الخروج على القانون والبلطجة فى أنحاء البلاد وصعيد مصر تحديدا.