"ليس هناك بديل"، جملة كان أول من رددها المفكر الإنجليزى هربرت سبنسر (1820– 1903) فى دفاعه عن السياسات الليبرالية فى العصر الفيكتورى فى بريطانيا، ثم اتخذتها مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا من 1979 إلى 1990، شعارا لها لتدافع به عن سياساتها النيوليبرالية، حتى صارت تنعت بلقب TINA، اختصارا لهذه المقولة باللغة الإنجليزية There is no alternative. جملة دأبت تاتشر على استخدامها لتبرر قرارتها فى عدة مواقف لتهدئة الرأى العام وبرمجته على القبول بأنه ليس هناك بديلا آخر عن ما تراه هى، ومع ذلك لم يتوقف المعارضون لسياساتها عن التفكير فى البدائل الأخرى وقياس الفرص الضائعة لو كانت تاتشر قد اتخذت قرارات مغايرة فى كل معضلة سياسية أو اقتصادية. وعلى الرغم من قوة هذه المرأة الحديدية ومن الهالة التى صاحبتها فى فترة حكمها، إلا أن أكبر مغالطة ارتكبتها هى مقولتها الشهيرة "ليس هناك بديل". على سبيل المثال، ذكر تقرير لشركة "برايس ووترهاوس كوبرز" أن السياسات التى تبنتها تاتشر أثناء تضخم إيرادات بريطانيا من بترول بحر الشمال فى منتصف الثمانينات أضاعت على بريطانيا ثروة احتياطية ضخمة، بما يوازى اليوم 450 مليار جنيه إسترليني، أى أكبر من احتياطى الكويت وقطر وروسيا مجتمعين، وكان من ضمن هذه السياسات خفض الضرائب على الطبقات الغنية بهدف تشجيع الاستثمار، مما أدى إلى تآكل هذه الثروة بسبب توجيهها لسد عجز ميزان المدفوعات، كان من الممكن استغلالها لإصلاح مشاكل كثيرة متعلقة بالخدمات العامة للمواطنين لسنوات قادمة لو كانت قد رأت بدائل لما أعتبرته ليس له بديلا، فدفعت الأجيال القادمة ثمنا باهظا لهذه القرارات. ما سبق هو نتيجة الفكر الأوحد الذى لا ينظر إلى البدائل ويتجاهل عمدا التحليل ودراسة الخيارات الأخرى. فكر ال TINA هو قصور فى الرؤية وتقصير فى مسئولية إتخاذ القرار وجرم فى حق الشعوب والأجيال القادمة. شعار يتخذه من فى السلطة للسيطرة على عقول العامة وإحتكار الفكر والتوجه على طريق واحد لا خيارات فيه، تضيع فيه الفرص وتكبل به البدائل الأخرى لفرض رأى أو خيار بعينه، أو فى الغالب لتمرير قرارات خاطئة متسرعة بدون دراسة واعية لكافة البدائل المتاحة قبل إتخاذ القرار تحت زعم إنه ليس هناك بديلا آخر، أو لفرض فكر أو نظام بعينه وإقصاء غيره لضمان بقائه فى السيطرة والسلطة. نفس هذا الشعار يسيطر الآن على عقول الكثيرين ويُردد على أسماعنا كلما طُرح السؤال: ماذا بعد السيسي؟ أو لماذا نقبل بالحكم العسكرى فى مصر؟ فتكون الإجابة التاتشرية الجاهزة: "ليس هناك بديل"! بالطبع يوجد دائما البديل، بل بدائل كثيرة وواضحة، فالبديل أبسط مما نظن. عدم التفكير فى البدائل هو قصور فى التفكير والوعى، هو التقوقع والإنكماش والإنحسار فيما نعرفه خوفا مما لا نعرفه، ومضيعة أكيدة لفرص النجاح والتغيير للأفضل، ولاسيما إذا كان الموجود بالبرهان والتجرية ليس هو الأفضل، وبرهن عن قصوره وعجزه فى تلبية إحتياجاتنا، وتكررت إخفاقاته الواحدة تلو الأخرى دون مراجعة أو اعتراف بالخطأ أو رغبة فى إصلاح المسار مع الإصرار الواضح على تكرار الأخطاء. البديل لا يتحتم بالضرورة أن يكون عبقريا أو ذو قدرات خارقة، هو بمنتهى البساطة على النقيض من كل ما مررنا به سابقا، وما هو موجود حاليا، وأثبت قصوره وعدم نجاحه. البديل يجب ألا يكون دينيا أو عسكريا، فمن هذين المسارين ذقنا الأمرين من الفكر الفاشى الذي يسيطر على العقول ولا يحترم حقوق الأفراد والحريات، ويعمل فقط من أجل بقائه فى السلطة، فدائما وأبدا يكون ذلك هو الهدف والمحرك لكل قراراته لا الصالح العام. البديل ببساطة شديدة هو من لا ينفرد بالقرار، ومن لا يسمع لنفسه فقط ويطلب من الجميع ألا يسمعوا غيره، ولا يتصور نفسه الوحيد العالم ببواطن الأمور ويحجبها عن الشعب. البديل هو من يؤمن بوجود بدائل لآرائه ويقر بأنه لا يعرف كل شئ، ويستمع لكل ذى خبرة فى تخصصه، ويفسح المجال عن ثقة لكل الآراء للأخذ بأصوبها والعمل به. البديل هو من لا يملك الكاريزما ولا جنون الزعامة حتى لا يعبده الأشخاص، فقد هرمنا من تجارب الزعيم الملهم الذي يقدسه الناس وتعشقه النساء فيتغاضوا عن هفواته، ويمجدون أخطائه، ويصفقون لأكاذيبه، ويتعلقون به حتى وهو يجرهم إلى الفقر والمرض والجهل والهزيمة فى كل شىء. البديل هو شخص عادى مثلى ومثلك، نعينه موظفا بدرجة رئيس جمهورية لأننا نتوسم فيه إيمانه بالديمقراطية والعدل وحرصه على مصلحة المواطن العادى، وفوق كل شىء صدقه وأمانته وتواضعه، لتكون هذه الصفات حصانة له من جنون السلطة والزعامة وما تسببه من أمراض الزهو بالنفس والغطرسة والديكتاتورية. البديل لا يتحتم أن يكون له سجل طويل من النجاح الباهر فى مجال الأعمال أو العلوم، فما أكثر رجال الأعمال الناجحين وأساتذة الجامعات النابهين الذين رأيناهم تحولوا إلى كائنات أخرى متعطشة للسلطة والإنتفاع بمجرد تقلدهم للمناصب. ففى حين أن ذلك يكون معيارا مهما فى الدول الأخرى، فإنه لن يكون معيارا عادلا فى بلد اختلطت فيها معايير النجاح بالنفاق والفساد وعدم تكافؤ الفرص، وتداخلت فيها شبكات المصالح، فأصبح النجاح ليس بالضرورة مرآة للقدرات الشخصية الحقيقية أو لمبادئ الشخص ومؤهلاته. ما يعنينا هو برنامج هذا البديل ومايريد أن يقدمه، ورؤيته وما يطرحه كحلول لمشاكلنا الطاحنة. البديل هو من يؤمن بمبادئ الدولة المدنية الحديثة، التى تحترم الدستور ويُطبق فيها القانون بحزم على الجميع دون استثناء، وتحارب الفساد فى كل صوره وتُعلى فوق كل شىء مصلحة المواطن البسيط وحقه فى التعليم والصحة والسكن والعمل بصورة آدمية تواكب العصر الذى نعيش فيه. البديل هو من يملك رؤية للإصلاح الشامل على المدى القصير والطويل فى كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإصلاح التشوهات والاعوجاج الذي أفسد كل شىء على مدار سنوات وعقود طويلة. البديل هو من يأتى للسلطة مؤمنا بتداول السلطة ولا يرضى عن ذلك بديلا مهما توسل إليه المنافقون وعبدة الحكام. البديل هو النقيض لكل ما هو موجود الآن من شبكات المصالح والفساد والانفراد بالقرار وغياب دور المؤسسات على حساب واحدة أو اثنين منها، وإهمال التعليم والصحة والإنتاج وإهدار المال العام وكرامة وحقوق المواطن المصرى، وغياب تطبيق القانون، والتفريط فى مقدسات ومقدرات الدولة والأجيال القادمة من أرض ومياه وصحة وتعليم. البديل هو بالضرورة من لم يتعامل أو يعمل بأى صورة مع الموجود سابقا أو حاليا، فمن يقدم التنازلات أحيانا، سيقدمها دائما، ومن يغض الطرف عن الخطأ لمصالح شخصية مرة، سيفعلها مئات المرات. البديل هو أقرب وأبسط مما تظنون ولكن المعضلة فى النظام الذى لا يسمح بظهوره، والذى ينكل بكل من يتجرأ أن يطرح نفسه كبديل فى غياب الدعم الجماهيرى، لأن الجماهير تم برمجتها على اليقين بعدم وجود البديل. لن يكون هناك بديلا إلا إذا تخلصنا جميعا من الخوف بداخلنا من التغيير وتخلصنا من اليقين الواهم الذى تم زرعه بداخلنا بأن ليس هناك بديل!