جاء عرض فيلم المرأة الحديدية الذي يتناول سيرة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر والذي فازت عنه النجمة الأمريكية ميريل ستريب بجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة لهذا العام, ليعيد فتح الباب أمام مناقشات واسعة حول تاتشر وسياساتها ورئاستها للحكومة. كانت كثرة التحليلات السياسية لشخصية تاتشر قد غطت علي حجم النقد الفني للفيلم. وأعادت تقييمها كشخصية يري الكثيرون أنها تتمتع بصفات القيادة القوية والقادرة علي الخروج بسفينة الدولة من وسط أي أزمات ومشاكل. وربما يعود الإعجاب بنمط قيادة تاتشر إلي ما تعانيه بريطانيا اليوم من تحديات كبري في زمن متغير لم تعد تصلح له السياسات التقليدية والقديمة, مما جعل البلاد في أشد الحاجة إلي شخصية مثل تاتشر لها قدرة علي الإحساس بالزمن وتغيراته. لا تزال تاتشر حتي اليوم محل إنقسام في الرأي بين البريطانيين مثلما كانت أثناء رئاستها للحكومة, فمنذ عرض الفيلم والبريطانيون منقسمون بين من يتفاخر بفترة رئاسة تاتشر لبريطانيا وبين من يهاجمها بشدة. وكانت تاتشر قد تعرضت في الثمانينات لهجوم شديد علي سياستها بشكل عام خاصة سياستها الإقتصادية وإرتفاع معدل البطالة وهو ما أوجد حالة من العداء للحكومة, إلا أن الذين يقارنون أداء تاتشر بأداء الحكومات الحالية لايتوقفون عند التفاصيل أو عند نوعية السياسات المتبعة, لكن ما يثير إهتمامهم في شخصية تاتشر هو شجاعتها وقدرتها علي الخيال والنظرة بعيدة المدي, وهو ما تحتاجه بريطانيا اليوم للتعامل مع تحديات غير مألوفة. هؤلاء الذين يعقدون المقارنات بين سياسة تاتشر وبين السياسات الحالية يرون أن العالم يتعرض لتحولات جوهرية من شأنها إبطال مفعول كل أشكال التفكير السياسي القديمة, وهو ما نجحت فيه في وقت اشتداد الحرب الباردة بين الغرب والإتحاد السوفيتي فكان تحالفها مع الرئيس الأمريكي ريجان ضد السوفيت بعد أن بلغ مستوي التسلح لدي المعسكرين حدا يهدد بتدمير العالم فكان أن إقتنعت تاتشر بأن زيادة الضغط علي السوفيت وإدخاله في سباق تسلح مع الغرب دفعه إلي زيادة إنفاقه العسكري في وقت يعاني فيه اقتصاده في الداخل, وهو ما سوف ينتهي به إلي تدهور داخلي يصيبه في مقتل علي حد تعبير محللين سياسيين بريطانيين في هذا الوقت. وهو ما حدث بالفعل وإنتهي بتفكك الإتحاد السوفيتي. وظلت المقارنة بتاتشر تتردد من وقت لأخر خصوصا عندما كانت تتراجع مكانة بريطانيا في علاقتها بالولايات المتحدة وهو ما حدث في فترة حرب العراق والعلاقة بين بوش وتوني بلير حيث كان بلير يبدو وكأنه تابع للولايات المتحدة ولسياسة حكومة بوش وهو عكس ما كانت عليه بريطانيا في فترة حكم تاتشر والتي وضعت نفسها في موقف متساوي مع الحليف الأمريكي أيام ريجان وكان ينظر إلي تاتشر بإعتبارها واحدة من القيادات القوية في العالم الغربي والتي تذكرهم بتشرشل الذي مازال حتي اليوم يعتبر مرجعا في التفكير السياسي بالنسبة للرؤساء الأمريكيين كما يرجع المحللون حنين البعض إلي فترة حكم تاتشر إلي المخاوف من أن التغييرات الجارية في العالم الأن تهدد المكانة العالمية لبريطانيا بسبب مشاكلها الإقتصادية وتصاعد قوة ومكانة الدول الآسيوية التي تحقق تقدما سياسيا وإقتصاديا.. ولكن هناك من يعارضون تاتشر حتي الآن ويرون أنها صفحة من التاريخ أغلقت ومن المشكوك فيه أنها بفكرها المحافظ العتيق يمكن أن تحدث تحولا في أفكارها في زمن أصبح فيه تدخل الدولة في النشاط الإقتصادي مطلبا كبيرا في بريطانيا اليوم لتعديل الميزان الذي مال لصالح الأغنياء. ويقولون إنها كانت تنتمي بقوة لفلسفة السوق الحرة والرأسمالية التقليدية, وكانت لها مواقف متشددة تجاه نقابات العمال. ولم يكن مصدر هذه القدرة ما ظهر من قوة شخصيتها بل لما لديها من حاسة وخيال سياسي ورؤية واضحة, ورغم أن معارضيها كانوا يتهمونها بالغطرسة لتمسكها بالرأي الذي تستقر عليه, فإن بعض الذين عملوا معها عن قرب يحكون عنها أنها لم تكن تنفرد بالرأي عن غطرسة أو عناد, فهي كانت تجلس مع مساعديها وتستمع إليهم وتناقشهم وتسألهم في كل التفاصيل قبل أن تنتهي إلي قرار. لقد كانت تاتشر زعيم حزب المحافظين مؤمنة بالفلسفة الرأسمالية والسوق الحر في زمن كان فيه الغرب يحتل مركز التأثير العالمي والنموذج للتقدم والرفاهية الاقتصادية, لكن بعد أن طرأت تحولات دولية ينتظر أن تنقل مركز التأثير إلي آسيا بعد صعود العملاق الصيني اقتصاديا ومعه نهضة دول آسيوية أخري اقتصاديا, إضطر حزب المحافظين إلي الإسراع بتغيير كثير من أفكاره التقليدية القديمة وتبني مفاهيم تدخل الدولة في السوق وتدعم التوجه نحو العدالة الاجتماعية وعدم التحيز للأغنياء فقط, هذا التحول جعل بعض أنصار تاتشر يرون أنها لو كانت تقود بريطانيا اليوم لكانت ستفعل نفس الشيء نظرا لما كانت تتمتع به من رؤية لا تنفصل عن زمانها وعن خيال يبحث عن السياسات المناسبة لكل وقت. [email protected]