على الرغم من محبتى للعديد من الروائيين سواء المصريين أو العرب أو العالميين فإنه لم يستطع كاتب أن يجعلنى أمسّ الجنون من فرط سحر كتابته وجمالها وجنونها أيضا مثلما استطاع الكولومبى الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982 جابرييل جارثيا ماركيز . وإلى الآن أتذكر اليوم الذى قررت فيه عدم العودة إلى البيت قبل الانتهاء من قراءة رواية «الحب فى زمن الكوليرا». كانت من عاداتى أن أقرأ فى المواصلات وهى العادة التى فقدتها بامتلاكى سيارة، وكنت وقتها أعمل فترتين وكنت أعود بين الفترتين إلى البيت للغداء والنوم قليلا، لكننى فى ذلك اليوم قررت ألا أذهب إلى البيت لأننى لو ذهبت إلى البيت فسوف أستسلم للنوم ولن أكمل قراءة الرواية. فقررت الذهاب إلى مقهى مجاور للبيت ولم أغادره إلا وكنت قد أنهيت قراءتها ثم عدت إلى العمل. وإلى الآن أتذكر تلك الرواية وأبطالها. كانت لنا جارة جميلة تعمل مدرسة كنت أنتظرها كل صباح فوق الرصيف فى السابعة صباحا فى طريقها إلى العمل وأعطيتها اسم فيرمينا داثا، وكنت أنا فلورينتينو إريثا ذلك العاشق البائس، لكننى إلى الآن لا أعرف من هو خوفينال أوربينو ذلك الطبيب الذى فاز بها. وأتذكر أيضا أنه ذات شتاء بعيد وبينما كانت الأمطار تهطل بغزارة خارج المقهى الذى كنت أجلس به كانت الأمطار لا تزال تهطل فوق قرية ماكوندو لمدة أربعة أعوام فى رواية «مائة عام من العزلة». ومؤخرا قرأت لماركيز كتابا يحتوى على مجموعة مقالات وهو من ترجمة المترجم السورى صالح علمانى. وهذا الكتاب هو «كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى» وهو فى رأيى يحمل عنوانا خادعا لأننى ظننت فى البداية أنه يتحدث عن عناصر وتقنيات كتابة الرواية على نسق كتاب البيروفى ماريو فارجاس يوسا «رسائل إلى روائى شاب». لكن هذا العنوان هو عنوان لمقال واحد ولكن تتنوع المقالات فى موضوعات مختلفة. ولم أكن أعتقد أن قراءة مقالات لماركيز ستحقق نفس المتعة التى أشعر بها عند قراءتى لرواياته وقصصه القصيرة. فمن بين تلك المقالات مقال عن اختفاء الكوكاكولا من كوبا بعد الحصار الاقتصادى، ومقال عن خوفه من المصاعد وعدة مقالات عن خوفه من الطيران. ففى المقالات لا يتخلى ماركيز عن لعبته الأثيرة وهى الحكى ومن امتع المقالات فى هذا الكتاب مقال يحمل عنوان «طائرة الحسناء النائمة» ويحكى فيه عن الفتاة التى كانت بجواره فى الطائرة فى الرحلة من باريس إلى نيويورك، وكيف أنه ظل يتأملها لمدة خمس ساعات، والتى ذكّرته برواية «بيت الجميلات النائمات» للروائى اليابانى ياسونارى كاواباتا وهو العمل الوحيد الذى تمنى ماركيز أن يكون هو كاتبه، وهو ما دفعنى إلى قراءة تلك الرواية الساحرة. ويحكى أيضا عن روائيين يابانيين آخرين أمثال تانيزاكى وأوسانو دازاى وكينزابورو أوى وعن عبادة اليابانيين للموت، وانتحارهم على طريقة الهاراكيرى. وكيف أنه عندما اتصل به زميل له فى باريس يدعوه إلى لقاء كتاب يابانيين رد عليه ماركيز «سأكون سعيدا بالحضور ولكن شريطة ألا ينتحروا». يقول ماركيز فى هذا المقال «حين رأيتها تقف فى الصف للصعود إلى طائرة نيويورك فى مطار شارل ديجول فى باريس؛ فكرت أن هذه أجمل امرأة رأيتها فى حياتى أفسحت لها الطريق وحين وصلت إلى المقعد الذى خصصوه على بطاقة الصعود إلى الطائرة وجدتها جالسة على المقعد المجاور، واستطعت أن أسائل نفسى وأنا مبهور الأنفاس: مَن هو عاثر الحظ منا فى تلك المصادفة الرهيبة؟».