قرأتُ مادة صحفية تفيد بأن الروائي الياباني المُفضَّل لدي، ياسوناري كاواباتا بعث قرب منتصف القرن الماضي، رسالة إلي الروائي الشاب حينئذ، يوكيو ميشيما، يسأل فيها عن المترجم الأمريكي الذي يقوم بترجمة اعترافات قناع ليوكيو ميشيما، لأنه مطلوب من ياسوناري كاواباتا، وهو في ذلك الوقت يكبر يوكيو ميشيما بستة وعشرين عاماً، ترشيح بعض القصص اليابانية لترجمات غربية. كان طلب كاواباتا مؤلماً لي من وجوه عدة، أولاً لأن أعماله العظيمة، بلد الثلوج، ضجيج الجبل، سرب طيور بيضاء، البحيرة، تنفي عن الرجل تعرضه لكل صغائر مهنة الأدب. يعرف جميع المهنيين أن طلب بالتعرُّف علي المترجم الأمريكي هو أحط طلب ممكن لكاتب أن يطلبه من كاتب آخر، فالأمر يتعلق في النهاية بفتح طريق إلي إمكانية ترجمة لعمل من أعمال كاواباتا. ثانياً، لأن الروائي الكبير قال في طلبه حجَّة واهية حتي يمرر علي الروائي الصغير غيرةً أو حسداً، مع إن أعمال يوكيو ميشيما مُقارنةً بأعمال ياسوناري كاواباتا، لا شيء علي الإطلاق، وكنتُ قد قرأتُ أعمال الأول أو الشهير منها في زمن مراهقتي، وهي الآن جثث هامدة. كنتُ أعرف أن حياة الكاتب الشخصية مليئة بما هو نفعي إلي حد الاشمئزاز، لكنني مع كاتب ما زلتُ أقرأه مراراً وتكراراً، كنتُ أتمني له حياة شخصية مثالية، مثل ما ينتجه من أدب، كنتُ أتمني هذا، لكنني في نفس الوقت لا أستطيع إنكار خساسة كاتب أحبه، وهناك شبه سعادة خفية في النيل من أخلاقيات الكاتب علي وجه العموم، وكلما كانت أعماله عظيمة كان النيل من أخلاقياته مثيراً. ثالثاً، لأنني في حياتي الأدبية المُتواضعة سمعتُ طلب ياسوناري كاواباتا من أبناء المهنة، وهو طلب في العادة مكشوف، ولا يلاقي استجابة في العرف المهني، إلا إذا كان مُغتَصَبَاً، أو خاضعاً لتبادل مصلحة. إن النقص الأخلاقي بأنواعه في حياة الكاتب مقبول ومُدلل من قِبَل الساهرين علي أدبيات السير الذاتية، بل يبدو جذَّاباً، ومادة تسجيلية ودرامية تتحول تحت خفة اليد إلي كمال من نوع سحري، لكن يبقي نوع واحد من أنواع النقص الأخلاقي لدي الكاتب أو الفنان محظوراً، وهو تقدير الكاتب أو الفنان لعمله الإبداعي، وهذا التقدير يشمل سعي الكاتب أمام عمله، هذا السعي لا يقبل خفة اليد، يظل قبيحاً مُنفراً يستعصي علي تحويله من نقص أخلاقي إلي السقوط الوجودي الذي تنعم به فروع النقص الأخري. في رسالة أخري يطلب ياسوناري كاواباتا من يوكيو ميشيما ترشيح اسمه لجائزة نوبل. وكان هذا الطلب الخسيس قبل خمس سنوات من حصول ياسوناري كاواباتا بالفعل علي جائزة نوبل في 1986، وكان يستحق الغمزة واللمزة من يوكيو ميشيما عندما قال له بأنه يخجل وهو الروائي الصغير من رسالة ترشيح يكتبها لتزكية معلمه الكبير، لكنه علي العموم سيكتبها، وإذا ساعدتك قليلاً، أكون سعيداً، وإذا كان لديك طلب آخر، فأرجو ألا تتردد. علي مدي عشرين سنة، ومنذ أن وقعتُ في هوي أعمال ياسوناري كاواباتا، لم أتخيل مرة تقدير كاواباتا نفسه لأعماله، وكأنّ تلك الأعمال خرجتْ للنور ليس تحت طلب مُلح من الفنان أو تحت لا مبالاة مُفرطة، أو تحت اعتدال ما، بل هي خرجتْ لأنها يجب أن تخرج. منذ طلب الرخيص قلتْ الرسائل بين ياسوناري كاواباتا وبين يوكيو ميشيما، وبعد حصول الأول علي جائزة نوبل، لا توجد من الثاني رسالة تهنئة، مع أن الرسائل بينهما كانت تتوقف علي المجاملات الرسمية وتبادل الهدايا في المناسبات. خمسة كراسي مصفوفة بحذاء نافذة القطار الزجاجية، الكراسي ثابتة علي محاور دائرية، وفي الجانب الآخر يجلس بطل رواية كاواباتا حزن وجمال علي مقعده الثابت غير الدائري وعينه علي الكراسي الخمسة بينما أفكار غامضة عن الوحدة والقدر تدور في عقله، يلاحظ البطل أن أحد الكراسي الخمسة يدور علي محوره عكس دوران الكراسي الأخري، يرتَّج الكرسي علي محوره ويهتز ويدمدم للحظات ثم يعود إلي دورانه مع الكراسي الأربعة لكن بسرعة مختلفة، أو تتوقف الكراسي عن الدوران بينما يبقي الكرسي الغريب علي دورانه. تلتقي أفكار البطل عن القدر بحركة كرسي القطار. لماذا أري هذا المَشْهَد صارخاً في قوته، أولاً لأن السبب الواقعي غير الفني الذي من الممكن له جعل حركة دوران الكرسي علي محوره طبيعية جداً، مُتَوَّفرٌ ومُتاح وليس من ورائه طائل، وهو قوانين حركة الأجسام، ثانياً فقد يكون محور الكرسي الدائري من كثرة الاستخدام أكثر نعومة من محاور الكراسي الأخري، ولهذا ومع حركة القطار سيبدو بسرعات واهتزازات مختلفة عن باقي الكراسي الأخري، وهذا أيضاً سبب غير فني، ويبقي فقط الفني بجدارة هو عدم إغفال كاواباتا للقوانين الواقعية، أي احترامها وعدم خرقها، ورغم أنه يستبطن تلك القوانين تماماً في رؤيته الفنية، وللمفارقة يستطيع الفنان تجاهل القوانين الطبيعية واعتبارها غير هامة، لكنه لا يستطيع خرقها، فبطل كاواباتا من مجرد نظرته للكرسي الدائر علي محوره رأي ما هو فني، والفني علي الدوام يشعر الآخرون بالعجز أمامه، لأنهم يتعرضون طوال الوقت لمَشَاهِد من نوع كرسي القطار ومع هذا لا يلتقطون ما يلتقطه الفنان، أمّا عن تمثيل أفكار البطل القدرية بالكرسي الدائر علي محوره وصدفة اللقاء السعيد بينهما وهي صدفة لقاء تفوق في إعجازها ما حلم به السرياليون من لقاء بين ماكينة خياطة وشمسية، فهذا مرجعه فقط لحدس كاواباتا، وهو حدس غير قابل للتفسير.