أحسد المصورين. أراها مهنة سحرية. أنظر لأصحابها بذات الدهشة التي استقبلنا بها الحاوي في فناء مدرسة قريتنا. القدرة على تثبيث المشهد في لوحة حية، باطار حقيقي وأبعاد منضبطة دون موسيقى مصاحبة أو مؤثرات صوتية أو صوت راو يحاول مداعبة مشاعرك. لكني أكره الجمل الشارحة للصور. باستثناء زمان أو مكان الصورة أو اسم من فيها تبدو التعليقات المصاحبة لكثير من الصور قتلا مع سبق الاصرار لمعناها. محاولة لاجبار الرائي على احساس وانفعال بعينه. واحدة من معالم التطور الكبير في مجال الصورة في مصر سواء الصور الصحفية أو صور الشارع "daily life" أنها تخطت هذه الأزمة إلى تعليقات منضبطة يكتبها المصورون أنفسهم مصاحبة لأعمالهم، وإن كانت بعض الصحف تجتهد أحيانا وتضيف ما تظنه تعليقا خفيف الظل لكنه كثيرا ما يكون سمجا أو مناسبا لصحيفة في الاربعينيات فيفسد الشكل كله. في صور الحياة اليومية تحديدا كان المصورون يقعون في هذا الفخ، وحين تجاوزوه يوقعهم فيه المتلقون أو محررو الصفحات الأخيرة الذي يضيفون كلمات أو أبيات شعر أو زجل لا علاقة لها بما في الصورة. طفل يجلس في صندوق سيارة نقل على طريق سريع ممسكا بجهاز لوحي، يشاهد مقطع فيديو بانتباه وابتسامة واسعة. سيدة تضحك عند الصورة مغرية جدا، لكن تحولها إلى بوست به عبارات من عينة "السعادة والرضا" قد يجعلك تفكر ألف مرة قبل أن تلتقط الصورة. في أيام الأعياد ونهايات الأسبوع صور كثيرة ملقاة في الشارع. عائلات خرجت إلى مساحات تشبه الحدائق لكنها ليست كذلك، أو خلاء تعيس يسمونه زيفا ميدانا، ابتسامات حقيقية وضحكات عابرة وأوعية شاي وطعام في أكياس بلاستيكية. أطفال يلهون لحظات تردد قبل أن تلتقط الصورة. تراها صورة جميلة. لكنك تخشى أن تجدها في اليوم التالي مصحوبة بكلمات ركيكة من أغنية فيها حاجة حلوة، أو آخرين يرونها محاولات متعمدة لتزييف واقع مزري لم يجد فيه هؤلاء ساحة للفرح سوى مكان بهذا البؤس. مهلا هي مجرد صورة. ربما لهذا أحب تجربة " every day " في كل البلدان التي شهدتها، تقتصر على صور رائعة تسجل الحياة اليومية من مصورين محترفين أو هواة مصحوبة بتفصيلة المكان فقط. لحظات لا تحتاج أكثر من تأملها. كذلك تجربة humans of new York التي حققت كل هذا الانتشار والتأثير، اعتمدت في المقام الأول على قصص واقتباسات من أصحاب الصور، بدون أي تدخل من براندون ستانتون ملتقط الصور سوى باضافة حكاياتهم بلسانهم. من أجمل ما كان في تلك التجربة حين تتبع قصص اللاجئين إلى أوروبا، فكانت صورة فتاة سورية عبرت البحر إلى اليونان تظهر في الصورة إلى جوار شقيقتها وذراعها مكسور وتقول : كنت أنزل السلم وأنا أنظر للنجوم. كل محاولات تقليد- تمصير- هذه التجربة انتهت نهاية حزينة لأنها لم تلتقط الروح التي صنعت بها، ولرغبة غريبة في الاكثار من الحكي على حساب ما في الصورة نفسها من معنى. بعض الصور نجت من هذا وتركت تأثيرا بما فيها من جمال حقيقي. كصور علي زرعي ، و مصعب الشامي و مصطفى بسيم وصور آخرى لكثيرين من زملائهم كإيمان هلال ومحمود خالد وروجيه أنيس ومحمد علي الدين ومحمد حسام ومحمد عبد الغني. ما يصطلح العاملون في الصحافة على تسميته "عنوانا شارحا" بات واحدا من مظاهر تجاهل المهنة للصورة كقيمة، فهي بالنسبة لهم عاملا اضافيا لا مكونا أساسيا ومؤثرا في هذه الصناعة، نهايك عن نظرة للجمهور تعتبره جاهلا يحتاج من يوجهه ويشرح له القصد والمعنى. بينما هو لا يحتاج أكثر من تفصيلات المكان والزمان، فالرائي يملك وحده حق أن يقرأ الصورة ويشعر ويتفاعل معها بما تلمسه فيه. تظلم كل هذه الأشياء جيلا عبقريا من المصورين المصريين انتشر في الشوارع خلال السنوات الأخيرة ليمنحنا كل يوم صورا ولوحات تحتاج الاحتفاء بجمالها أكثر من حصرها في هذا التناول السطحي الضيق لتكون تلك بداية لتقدير أصحاب هذه الأعمال معنويا وماديا كما يستحقون.