«جذبنى الحديث معه طويلًا، قال لى إنه يعانى من مشكلات التأقلم فى جامعة كولومبيا بسبب وضعه التعليمى السابق، طلبت منه أن يوضح أكثر، قال: ولدت فى مصر، عملت بالفلاحة حتى أصبح عمرى تسع سنوات، لم أتلق أى تعليم، جئت للولايات المتحدة لمدة عام واحد، بدأت الدراسة فى سن العاشرة، ولكنى توقفت، لأن أبى لم يستطع أن يجد عملا، فعدت إلى مصر لمدة عام آخر، المرة الأولى التى ذهبت فيها إلى مدرسة حقيقية كانت فى أثناء التعليم المتوسط، ولكن المدرسة كلها كانت مكونة من فصل واحد، وكنت أعمل صبى توصيل طلبات حتى أساعد عائلتى، كنت دون السن القانونية للعمل، ولكنى واصلت ذلك، وأخيرًا وصلت للمدرسة الثانوية، احترق البيت الذى كنت أقيم فيه، اضطررت إلى الذهاب إلى مأوى للصليب الأحمر، وكانت الطريقة الوحيدة لأنْ أبقى هناك هى أن أتطوع للعمل، وحصلت على الثانوية بمشاهدة كل فيديو أنتجته أكاديمية خان (موقع تعليمى على الإنترنت متخصص فى تعليم أى شىء، تقريبًا)، علَّمت نفسى بنفسى، كل شىء فقدته فى الأعوام السابقة، أخيرًا ذهبت إلى كلية كوين لمدة عامين، والآن فقط استطعت الانتقال إلى جامعة كولومبيا بواسطة منحة دراسية من جمعية إسكان نيويورك، وهى تمنح للذين يعيشون فى أماكن غير مستقرة، وجدت الجامعة مكانًا مخيفًا، لأن كل الذين يلتحقون بهذه الكلية قد تخرجوا فى أفضل المدارس، وحصلوا على أرقى تعليم فى كل مراحل حياتهم، ماذا يمكن أن أفعل فى مواجهتهم؟». مصرى بالتأكيد، ولكن اسمه ليس معروفا، فى موقع «بشر من نيويورك» لا تهم الأسماء كثيرًا، ملامح الوجه، وحكاية المعاناة خلف ابتسامته هى التى تهم، قابله «براندون ستانتون» مصادفة وهو يتجول بكاميراه المجنونة، وتوقف ليلتقط صورته وهو يرتدى «تى شيرت» مكتوبا عليه اسم جامعة كولومبيا، واحدة من أعرق الجامعات الأمريكية، الالتحاق بها يدل على مدى إصرار هذا المصرى العابر للسبيل. هذه واحدة من آلاف القصص التى تعطى لنيويورك طابعها الإنسانى، بدلا من أن تكون مجرد مدينة للغرباء، فى البداية كان هدف «ستانتون» أن يجمع وجوه عشرة آلاف شخص ليصنع منها خريطة لمدينة نيويورك الحافلة بكل الألوان والأجناس، ولكن اكتشف أن الوجوه مجرد نوافذ لا بد من تجربة إنسانية خلفها، لم يعد يكتفى بالتصوير، كان يتمهل ويجلس ويتعرف ويستمع، ويضع تحت كل صورة فى مدونته بضعة أسطر عن تجربة صاحبها. لم يكن مصورًا محترفًا، كان يعمل فى «شيكاغو» فى مجال الأسهم والسندات، وانتقل إلى نيويورك ليمارس نفس العمل، ولكن الأزمة المالية فى عام 2010 عصفت به وبوظيفته، فوجد نفسه فجأة بلا عمل، بدأ يحمل الكاميرا ويتجول فى الشوارع، علّم نفسه بنفسه كيف يصور، وهو يمتلك الآن أكثر من 6 آلاف صورة جانبية على موقعه «بشر نيويورك Humans of New York»، قد حصل موقعه على المركز الأول على صفحات التواصل الاجتماعى، وقام أكثر من 12.1 مليون بالدخول إليه، وفاز بجائزة أفضل موقع مصور، لأنه جعل لفن التصوير معنًى، واختارته مجلة «التايم» واحدًا من 30 شخصية أسهمت فى تغيير العالم. ستانتون الذى لا يتجاوز الثلاثين من عمره من النوع «الغيرى»، يهتم بمساعدة الآخرين أكثر من نفسه، عرضت عليه شركة «ديكنى» وهى من كبريات الشركات العالمية فى مجال الأزياء، أن تستخدم 300 صورة من مجموعته لوضعها فى واجهات العرض الخاصة بها فلم يأبه بالعرض، ولكن الشركة استخدمت صوره بالفعل فى واجهات العرض التابعة لها فى بانكوك، وطلب ستانتون منها تعويضًا قدره 100 ألف دولار تقوم بدفعها لأحد المراكز الثقافية التى تقوم بالحفاظ على الثقافة ذات الأصول الإفريقية فى بروكلن، وقد آزره رواد مواقع التواصل الاجتماعى فى مطالبه، وهددوا بمقاطعة منتجات الشركة إذا لم تدفع، وبعد ضغوط كبيرة وافقت على نشر اعتذار للموقع ودفع 25 ألف دولار للمركز الثقافى، وبدأ ستانتون حملة للوصول بالمبلغ إلى المستوى الذى يريده ونجح فى جمع المبلغ بأكمله. من شوارع نيويورك انطلق ستانتون لبقية أنحاء العالم تحت رعاية من الأممالمتحدة، بدأها بإيران البلد الذى لا يزوره الأمريكان إلا قليلا، وقضى خمسين يوما زار فيها عشر دول، منها العراق والأردن وإسرائيل، ولكن مصر لم تكن فى خطته، وفى أكتوبر 2013 أصدر أول طبعة من كتابه «بشر نيويورك»، وباع 300 ألف نسخة فى اليوم الأول من صدوره، وقال إنه يستعد لإصدار كتاب آخر عن أطفال نيويورك، واحتل الكتاب المركز الأول على لائحة ال«نيويورك تايمز» لمدة 28 أسبوعا، وهو رقم قياسى، وقد اكتسب الموقع قوة كبيرة فى التأثير على الناس، وتم استغلال ذلك فى الإسهام فى الأعمال الخيرية وجمع التبرعات، ففى مواجهة إعصار ساندى الذى ضرب الساحل الشرقى لأمريكا قام الموقع بجمع ما يقارب نصف المليون دولار، وقام بحملة أخرى لمساعدة مصور وزوجته أرادا أن يتبنيا طفلا إثيوبيا يتيما هو وأخته، وفى مدينة مثل نيويورك حافلة بكل أنواع البشر، فإنه يمكن اعتبارها ملخصا للعالم كله بكل أجناسه ومشكلاته، لقد تحول كل إنسان إلى قصة تستحق أن تروى. لقد أسعدنى أننى عرفت أن هناك موقعا آخر لمدينة القاهرة، يستعرض وجوه أهلها ويبحث عن تفاصيل حياتهم المخفية وسط التلوث والزحام، ولكن هذه قصة أخرى.