بائع ترمس صغير، يبيع حباته للعشاق العابرين فوق قمة المقطم، يبتسم فى خجل، ويقول إن أمنيته الوحيدة فى الحياة هى أن يكف أبوه عن الشجار مع أمه وضربها، وسيدة خمسينية تبيع الجوارب فى ميدان باب الحديد، أرملة، وتنفق على ثلاثة من الأطفال، تجاهد حتى تجد بصعوبة مكانا لها بين زحام الباعة، أمنيتها أيضا أن يكف عساكر البلدية عن مطاردتها ومصادرة بضاعتها، ورجل آخر يعمل فى أحد إسطبلات الخيول، كان لصا فى السابق، لكنه أراد أن يتوب ويبدأ حياةً جديدةً، حتى ولو كانت بين روث الخيل.. عشرات من القصص تؤلف التاريخ الصغير لهذه المدينة الهائلة، التى تنام على ضفاف النيل مثل ديناصور رخو، القاهرة بما فيها من بشر يسعون على وجهها، مدينة لا تعرف النوم، ولا مساحة فيها للتنفس، وتضيق منازلها بالغرباء، الذين لا يكفون عن التدفق إليها، لهذا فمن المهم أن يوجد من يلتقط بعضا من حياتها المتدفقة، ووجوهها العابرة، وكنت سعيدا حين عرفت أن هناك موقعا مختصا بذلك هو «أهل القاهرة Humans of Cairo». استوحى الموقع فكرته من الموقع الشهير «أهل نيويورك»، حيث يتجوّل براندون ستانتون، ويلتقط وجوه سكان مدينته، ويستمع إلى تجربتهم الحياتية، ثم ينشر صورهم فى الموقع، وتحتها سطور مختصرة توضح قصة صاحبها، وفى غضون أشهر قليلة احتل المركز الأول على شبكة الإنترنت، حصل براندون على دعم من الأممالمتحدة ليكرر تجربته فى عشرة بلدان أخرى، لم تكن مصر من بينها، ربما كان ذلك بسبب الحالة الأمنية المضطربة فى الشارع المصرى، وهو الأمر الذى مثل تحديا للمصورة المصرية الشابة سلمى حجاب، لقد قررت أن تتحمل مسؤولية بناء هذا الموقع بجهدها الخاص دون معونة من أحد، ودون توقع لمساعدة من أحد أو أى مكاسب تجارية، لكنها أحست أن عليها تقوم بالدور المنوط بها، أن تعبر عن مشاعر الحب والكره المتضاربة بداخلها تجاه المدينة، تقول: «كنت دائما أكره العيش فى القاهرة، وقلت لنفسى إننى لو استطعت القيام بهذا المشروع فربما استطعت أن أحبها». لقد أرادت أن تصور جيرانها، والناس الذين تعرفهم قبل أن تنطلق إلى بقية أحياء القاهرة والمدن التى تجاورها، فهى تؤمن أن الناس قد خلقوا من نفس نوع اللحم والعظم، لكن عندما تقترب منهم تكتشف أن داخل كل واحد منهم شخصية متفردة لا تشبه أحدا، لكن سلمى اختارت الزمن الصعب لبدء مشروعها، فى تلك اللحظة من عام 2012، الذى أعقب الثورة، هبطت إلى مدينة مضطربة، أمنها منعدم، وشوارعها ممتلئة بالمتظاهرين، بعضهم ثوار، وأغلبهم بلطجية، لذلك فقد سُرقت منها الكاميرا، وتعرضت للتحرشات، واتهمها الحمقى بالتهمة المألوفة بأنها جاسوسة، لأن كل واحد منهم يعتقد أنه سرّ حربى، لكنها قاومت هذه الترهات، ذلك رغم أن أكثر من 60% من الذين تقابلهم كانوا يرفضونها، لقد أدمن المصريون جميعا سياسة الخوف والاختباء، ويعتقد كل واحد أن الكاميرا سوف تكشف عن وجودهم، لذا فإنهم يرفضون ويعترضون دون مبرر. سارت سلمى على أشواك الشارع المصرى الملىء بالريبة والعدوانية، وحاولت أن تكشف عن صورة مدينة عظيمة، لكنها بائسة، وعن وجوه أهلها الطيبين، لكنهم متحفزون، لكن القاهرة، وهذا شىء محزن، لا تبدو من نوع المدن التى تعطيك خلفية جيدة تثير الفخر بقدر ما تثير الأسى، فهى قديمة وعشوائية لدرجة مزعجة، وعندما لا تكف الكاميرا عن التجول فهى تكشف عن حقيقة تغاضت عنها كل الأنظمة التى توالت على حكمها، لقد تركوا أهلها يعيشون فى عاصمة قديمة متهالكة، وبينما تزدهر عواصم عربية عديدة وتجدد شبابها، تغرق القاهرة فى شيخوختها أكثر، تحاصرها العشوائيات، ويمتلئ قلبها بالأماكن التى كانت مزدهرة وعامرة قبل أن يتم إغلاقها، وتتحول إلى أماكن قبيحة لا يسكنها سوى الفئران والغربان. لقد وجهت الانتقادات إلى بعض الكتابات الموجودة على الموقع، لأن الغالب عليها هو طابع حزين وانتقادى، ولا تركز إلا على جانب واحد من المدينة، وتدافع سلمى عن نفسها بأنها تسجل كلمات الناس دون تدخل منها، ماذا يمكن أن تفعل المصورة فى مواجهة البؤس؟ مع الأسف، سعادتنا لن تكتمل بهذا الموقع الخاص، مثل كل الزهور التى تذبل مبكرا، فقد أعلنت صاحبته أنها ستتوقف لأنها لم تعد قادرة على تحمل مسؤوليته، وفى الوقت الذى ينجح فيه موقع «أهل نيويورك» ويتوسع، ويصبح عدد رواده 7 ملايين متتبع، يتوقف موقعنا المصرى قبل أن يصل عدد رواده إلى خمسة آلاف. مهما كان الجهد البشرى كبيرا فهناك حدود يجد المرء نفسه مرغمًا على التوقف عندها، خصوصا وقد بقى تأثيره ضعيفا فى محيطه، فالموقع الأمريكى قد اخترق حاجز الفردية، واستطاع أن يجتذب دعم مؤسسات دولية وشركات كبرى، وأصبح قوة مؤثرة من قوى المجتمع المدنى، وبفضل رواده والمتابعين له جمع أموالا كثيرة، وأسهم فى مقاومة الكوارث الإنسانية، وأن يكون عضوا فاعلا فى حل قضايا البيئة، أما موقعنا المصرى فقد بقى هامشيا، لم يشعر أحد بأهميته، ولم يبالِ أحد بالألم الإنسانى الذى يتبدى فى كل قصصه، ربما لأننا تعودنا على هذا النوع من البؤس، ولم يعد يؤثر فينا أى موقع، خصوصا إذا كان عاجزا عن حماية صاحبته.