أحد أبرز سمات ووجوه الدولة/ الأمة الحديثة تتمثل فى سيادة القانون، ومبدأ الشرعية القانونية، وهو ما يعنى خضوع جميع المواطنين لسلطة القانون الوضعى الحديث الذى ينظم العلاقات والمراكز القانونية أيا كانت مجالاتها، وذلك دونما تمييز بين مواطن وآخر فى الحقوق والواجبات بسبب النوع الاجتماعى، أو اليسر المالى والثراء أو العسر ورقة الحال، أو بسبب الدين أو المذهب أو العرق أو اللون، أو المنطقة التى ينتمى إليها، أو عراقة المحتد، أو القومية. تطبق القواعد القانونية التى وضعت لتنظيم مجال من مجالات الحياة العامة أو الشخصية، على جميع المخاطبين بها، ومن ثم لا تمييز فى سيادتها وإنفاذها لأى سبب من الأسباب. أحد معالم دولة القانون، هو أعمال مبدأ الشرعية القانونية الذى يعنى خضوع القواعد الأدنى للقواعد الأعلى. الدستور- مكتوبا أو على النظام البريطانى العرفى والقضائى وتقاليده ومبادئه. إلخ- يمثل أساس الشرعية حيث تسود قواعده على كافة القوانين التى يصدرها البرلمان، ويتعين على السلطة الشارعة أن تحترم تشريعاتها القواعد الدستورية الأعلى مكانة ومقاما فى النظام القانونى الكلى وأنساقه الفرعية. من ناحية أخرى على اللوائح والقرارات الإدارية التى تصدرها أجهزة الدولة والمؤسسات العامة أن تحترم القوانين والقواعد الدستورية، وإلا تأتى بقواعد أو قرارات تخالفها وإلا وصمت بعدم الشرعية القانونية أو الدستورية. مبدأى سيادة القانون، والشرعية القانونية على النحو السابق، يشكلان مقاربة معيارية شكلانية، أى تهتم بشكل ومضمون القاعدة الأدنى فى علاقاتها بالقاعدة الأعلى درجة دون أبعادها الاجتماعية في التوازن بين المصالح المتصارعة، وهو ما قد يبدو فى عديد الأحيان موضعا للاحترام، وذلك إذا ما كانت هناك سياسة تشريعية معلنة من قبل السلطة الشارعة، وتشاركها فى الأداء ومشروعات القوانين- والقرارات الجمهورية بقوانين - السلطة التنفيذية. وهذا التوافق بين القواعد الأدنى والقواعد الأعلى، غالبا ما يتم فى ظل عقل تشريعى وسياسى وثاب يستوعب هرمية الشرعية، ويسعى غالبا إلى تطبيق مبادئها وقواعدها فى أثناء إعداد التشريعات، ومناقشتها فى البرلمان. من ناحية أخرى غالبا ما يتم ذلك فى ظل تشكيلات برلمانية تعكس التعدد الاجتماعى والسياسى والدينى والمذهبى فى البلاد، وبعض من الاستقرار الاجتماعى والاقتصادى والأمنى والسياسى. إلخ. بعض هذه الشروط الموضوعية والسياقية غالبا لا تتوافر فى ظل سيطرة العلاقات الزبائنية والمحسوبية والفساد فى بعض المجتمعات ومنها مصر، خاصة فى ظل تشكيلات برلمانية تعتمد على المال والرشى الانتخابية، والاعتماد على أبنية القوة الاجتماعية التقليدية كالعائلة الممتدة، والقبيلة والعشيرة، أو العلاقة مع السلطة، هنا تلعب العصبيات المحلية دورا بارزا فى علاقاتها مع السلطة فى تحديد من يدخلون إلى البرلمان، ومن تغلق فى وجوههم أبوابه، فى ظل ظواهر التزوير الرسمى، أو الأهلى لإرادة الجماعة الناخبة أيا كان تكوينها الاجتماعى. إلخ. من هنا غالبا ما تكون مخرجات النظام الانتخابى أحد أسباب اختلال العمليات التشريعية، وذلك لضعف هذه المخرجات من حيث مستويات تكوين أعضاء البرلمان وقدرتهم على فحص مشروعات القوانين وتحليلها ونقدها والقدرة على تقديم البدائل فى النصوص، وإعادة ضبطها وصياغتها الفنية، أو مناقشتها من حيث العدالة القانونية والاجتماعية والدينية والاقتصادية قبل تمريرها وإقرارها، وإرسالها إلى رئيس الجمهورية لإصدارها ونشرها بالجريدة الرسمية. ضعف تكوين بعض أو غالب أعضاء التشكيلات البرلمانية يؤثر سلبا على مخرجات العمليات التشريعية خاصة فى ظل روابط بعضهم السلطوية، أو سعى بعضهم للحصول على مزايا لأعضاء دائرته الانتخابية، أو لأشخاص أقرباء لهم، أو الحصول على مصالح شخصية لهم على نحو ما شاهدنا منذ برلمانات السادات ومبارك، ولا يزال بعضهم يحاول إعادة إنتاج هذه الممارسة الوبيلة لاسيما بعض رجال الأعمال الكبار، أو متوسطيهم. إلخ. من ناحية أخرى نستطيع ملاحظة أن البرلمانات يتراجع دورها الفعلى فى صناعة التشريعات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهى ظاهرة عالمية حيث أدت أوضاع وتطورات ما بعد الحرب، ومحاولات إعادة بناء ما تم تدميره إلى بروز دور السلطة التنفيذية فى المبادرة بتقديم مشروعات القوانين إلى البرلمانات، واعتمادها على ظهير وداعم سياسى لها فى البرلمان من خلال أعضاء الحزب أو الائتلاف الحاكم. هذه الظاهرة لا تزال مستمرة فى ظل سياسة الضمانات الاجتماعية وتوسع دور السلطة التنفيذية فى عديد المجالات حتى فى ظل بعض التراجعات فى ظل النيو ليبرالية المعولمة. هذا الدور التشريعى المبادر للسلطة التنفيذية يضبط إيقاعه ويرشده برلمانات يقظة تشريعيا وسياسيًا، فى ظل وجود رجال قانون ومستشارين كبار، يقومون بدورهم فى إعداد المشروعات بقوانين قبل تقديمها للبرلمان، أو من خلال دور أعضاء البرلمان ومستشاريهم فى مناقشة ومراجعة نصوص هذه المشروعات بقوانين. ناهيك دور ورقابة الرأى العام والأجهزة الإعلامية المرئية والمكتوبة والمسموعة والرقمية التى تتمدد بقوة هائلة من خلال مواقع التواصل الاجتماعى والجدل السائد فيها حول الأمور التى تمس مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة والحقوق والحريات العامة والشخصية المحترمة من قبل سلطات الدولة وأجهزتها. فى الدول التسلطية ومجتمعاتها، تتراجع أشكال الرقابة، وتتآكل الكفاءات والمهارات بفعل الإقصاء والاستبعاد والقمع فى عديد الأحيان من هنا تبدو الدساتير والقوانين محضُ أدوات فى أيدى النخبة التسلطية وأجهزة الدولة، ومن ثم يؤثر ذلك على إدراكها السياسي للقانون وكأنه تعبير عن سلطاتها ومصالحها وأداة لإعادة إنتاج ذاتها، ومصالحها وقواعدها الاجتماعية المساندة لها في بعض الأحيان. من هنا لا ينظر إلى القانون بوصفه أداة لتنظيم المصالح الاجتماعية والاقتصادية المتصارعة، ولتحقيق التوازنات الاجتماعية، وإنما يدرك القانون سلطويًا على أنه أداة لفرض السيطرة على الفئات الاجتماعية، وعلى فرض القيود على الحريات العامة والشخصية والمجال العام السياسي المحاصر. لا ينظر إلى الدساتير والقوانين كضوابط وقيود على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولا بوصفهم تنظيم واحترام للحقوق والحريات العامة والشخصية. من ثم تحولت الشرعية القانونية وسيادة القانون إلى مجال للانتهاكات، أصبح نظام القرار الجمهوري بقانون أحد أشكال وآليات الاعتداء على المجال المحجوز للتشريع والمخصص للسلطة الشارعة، منذ بدايات ثورة يوليو 1952 إلى عهد مبارك ثم في أعقاب 25 يناير، و30 يونيو، وصدور الإعلان الدستوري في عهد الرئيس الأسبق والمعزول محمد مرسي لأحد أخطر الانقلابات الدستورية في تاريخ الدولة المصرية الحديثة. بات التشريع مجال وساحة للفوضى والتسلط السياسي والاقتصادي ولهيمنة قوى اجتماعية على غالب المكونات الاجتماعية في مصر. الأخطر غياب رؤيا وفلسفة تشريعية قبل وبعد الانتفاضات الشعبية في 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، حيث سيطرت نزعة براجماتية مضطربة ومهتزة وتفتقر إلى العقلانية السياسية والدستورية والقانونية في وضع مشروعات القوانين أو تمريرها، سواء أكان البرلمان منتخبًا أم السلطة الانتقالية هي التي تحتكر وضع القوانين. من هنا برزت الفجوات بين القانون والواقع الموضوعي في عديد مجالاته وفضاءاته وبرزت مشكلة عدم فاعلية القانون في الضبط الاجتماعي، وبرزت مظاهر متعددة لعدم تطبيقه على نحو أنتج فجوات بين المواطن المخاطب بالقانون واحترامه له، وتطبيق قواعده في السلوك الاجتماعي. ثمة أسباب أخرى في مسارات علاقة الدولة بالقانون، وعلاقة المخاطبين به بقواعده وأعمالها في تنظيم الحياة اليومية ومجالاتها، وهو ما تزايد على نحو خطير في أعقاب الانتفاضات الشعبية ومراحل الانتقال السياسي الثلاث، وهو ما سوف نتناوله في المقال القادم.