فى الخطاب القانونى المقارن ظهر تاريخيًّا مصطلح دولة القانون ليشير إلى خضوع الحكام والمحكومين لحكم القانون، ومن ثم يطبق على سلطات الدولة الثلاث التشريعية، والقضائية والتنفيذية، وكل المخاطبين بأحكام التشريعات والقواعد القانونية عمومًا، وذلك فى إطار مبدأ الشرعية أو علو الدستور وهو ما يعنى ضرورة احترام القاعدة القانونية الأدنى للقواعد القانونية الأعلى منزلة ومكانة. وهذا يعنى أن قواعد الدستور تسمو على غيرها من التشريعات والقواعد اللائحية والإدارية، والقرارات الإدارية التى تصدرها الإدارة العامة، بحيث إذا تعارض نص أو عديد من النصوص مع نص دستورى، أصبح يتسم بعدم الدستورية، وكذلك الأمر بالنسبة للوائح الإدارية.. إلخ التى يتعين عليها أن تتوافق مع النصوص الدستورية والقانونية معا، ولا تأتى بقواعد تخالفها، وإلا كان مصيرها الطعن عليها بعدم الدستورية والقانونية بطريق الدفع الفرعى، وحكم المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها. مبدأ الشرعية الدستورية والقانونية أساس دولة القانون، وله وجهان أولهما: شكلى من حيث ضرورة اتباع الجوانب الإجرائية التى نص عليها المشرع، وثانيهما: موضوعى وهو أن يتوافق النص القانونى أو الإدارى فى موضوعه مع النص الأعلى مرتبة فى ميزان الشرعية. هذا المفهوم للشرعية الدستورية، ولدولة القانون يتسم بالشكلانية والإجرائية، لأنه يمكن أن ينطبق على دساتير الاستبداد والمستبدين، ويتحقق فى التطبيق دونما تنافر طالما أن مضمون القواعد الدستورية تتسم بالنزعة الاستبدادية، وتأتى القوانين واللوائح والقرارات الإدارية متوافقة معها فى تلك النزعة، وهو ما يعنى حكم قانون الاستبداد والتسلط السياسى والقانونى معاً. من ناحية أخرى، تبدو النصوص الدستورية فى بعض دساتير الدول الاستبدادية والتسلطية حاملة لقيم الحرية والمساواة والعدالة والمواطنة وحرية التدين والاعتقاد، ولكن يضع المشرع الدستورى قيدا يتمثل فى أن هذه النصوص تتم فى إطار القانون، الذى تضعه السلطة الشارعة ويتضمن تنظيما لها يحد منها ويقيد من مضمونها وإجراءاته تحقيقها فى الواقع الموضوعى، بحيث يصبح القانون وتنظيمه للمبدأ الدستورى وللحريات العامة، هو قيدا عليها. عرفت الحالة المصرية هذا المنحى منذ ثورة يوليو 1952، وتاريخها الدستورى والقانونى متخم بالقيود القانونية والتنظيمية على الحريات العامة، والأخطر أن تطبيق الدستور والقوانين فى ذاته شكل قيدا ومصادرة فى عديد الأحيان للحريات العامة على نحو يمكن معه القول إن تاريخنا وثقافتنا الدستورية تسلطية بامتياز والاستثناءات محدودة، وتتمثل فى جرأة بعض جماعة القضاة فى إعمال جوهر وروح المبدأ الدستورى على نحو ما تم فى بعض أحكام المحكمة العليا، ثم فى قضاء المحكمة الدستورية العليا فى عهد رئاسة الدكتور "عوض المر" القاضى الدستورى الفذ، الذى طور مع أعضاء المحكمة الأحكام الدستورية تأصيلاً وتفسيرًا وتطبيقًا على المنازعات الدستورية التى وصلت إلى المحكمة.. استطاع عوض المر أن يطور نظريًّا وتأصيليًّا الأحكام بإدخال الرافد النظرى والفكرى وتوسيع مرجعية المحكمة من الفقه والقضاء الدستورى الفرنسى واللاتينى عمومًا، إلى إدخال الرافد الأنجلو أمريكى، من خلال اللجوء إلى بعض المبادئ القضائية التى أقرتها المحكمة العليا الأمريكية. لا شك أن هذه النقلة النظرية والتأصيلية على المستوى المرجعى هى استمرار للانفتاح التاريخى للقضاء المصرى الرصين على القانون والنظم القضائية المقارنة. هذه المعانى الرفيعة المكانة لمعنى دولة القانون ومبدأ الشرعية الدستورية، تحتاج إلى استمرارية اللجوء إلى النظم الدستورية والقانونية والقضائية المقارنة، وإلى أيضا الفقه المقارن لإضفاء الحيوية والتطور على الفقه والقضاء الدستورى والعادى والإدارى المصرى. إن أخطر ما يواجه مبدأ دولة القانون فى مصر يتمثل فى عديد من الأمور، نطرح بعضها فيما يلى: 1- ضعف الثقافة الدستورية والقانونية لدى بعض الجهات التنفيذية المنوط بها تطبيق وتنفيذ أحكام الدستور والقانون فى مصر، ويرجع ذلك إلى استمرارية الثقافية الدولتية التسلطية التى رسخ لديها اعتقاد أن تفسيراتها هى الدستور والقانون، وذلك لتحقيق استقرار النظامين السياسى والاجتماعى. 2- الاستخدام المفرط للقوة فى تطبيق القانون المنظم لبعض الحريات العامة، ومنها الحق فى التظاهر السلمى، الذى جاء به الدستور القائم -2014- والذى انطوى على ضوابط تقيد هذا الحق، ويغلظ العقاب على من لا يلتزمون بنصوصه. لا شك أن استخدام القوة المفرطة أدى إلى تزايد الفجوات السياسية بين الأجيال المصرية الشابة –وغالبهم من طلاب وخريجى الجامعات والمعاهد العليا .. إلخ- وبين النظام والنخبة الحاكمة على نحو أدى إلى خصومة بين أجهزة الدولة، وبين أجيال المستقبل القريب للبلاد، وهو أمر سيتفاقم فى المقبل من السنوات. لا شك أن ذلك يؤثر من الناحية الواقعية على عمليات بناء وتجديد نظام الشرعية السياسية للنظام والنخبة الحاكمة فى أعقاب 30 يونيو 2013 وخارطة الطريق، وهو ما أدى إلى تآكل وتفكك ما سمى بتحالف 30 يونيو. 3- استمرارية الإدراك السلطوى لنخبة الحكم وأجهزة الدولة الأساسية على أنها هى صانعة القوانين، وإدراكها للدستور والقوانين واللوائح والقرارات الإدارية أنهم محضُ أدوات لتحقيق النظام العام، والضبط الأمنى والإدارى فى البلاد. وهى نظرة وإدراك يجافى معانى الدستور وضوابطه والقوانين وتنظيماتها، من حيث القيم المؤسسة لها والأهداف المبتغاة من وراءها. 4- شيوع فهم خاطئ لدى بعض موظفى الدولة –لا سيما كبارهم- أن القوانين واللوائح والقرارات وضعت لكى تطبق على المواطنين، وليس عليهم أولاً، وأنهم مطالبون بالانصياع إلى القواعد القانونية فى تطبيقهم لها، من حيث الجوانب الموضوعية والإجرائية، فى حيدة ونزاهة. 5- شيوع الفساد السياسى والإدارى فى بعض أجهزة الدولة، ولدى بعض الموظفين العموميين الذين لا يطبقون القوانين إلا بعد الحصول على بعض الرشى المالية أو العينية، وهو ما يؤدى إلى تجاوزاتهم فى تفسير وتطبيق القوانين، أو الامتناع عن تنفيذها، هى وبعض الأحكام القضائية على نحو يؤدى إلى تشجيع المخاطبين بأحكام القانون إلى اللجوء لقانون الفساد -سلطة الثروة والنفوذ والمكانة- بديلاً عن قانون الدولة. لا شك أن هذه الظاهرة الوبيلة أدت إلى اتساع الفجوات النفسية بين قطاعات من المواطنين وبين قانون الدولة، وأنه لا يطبق إلا عن طريق آليات الفساد، ومن ثم يؤثر ذلك على نظام الشرعية، وعلى فعالية القانون الرسمى. 6- غياب تصورات إصلاحية لإعادة هيكلة وتطوير السياسة التشريعية والنظام القانونى الكلى وأنساقه الفرعية على تعددها واختلافها. وهذا الافتقار للرؤى الإصلاحية يعود إلى غياب الإحساس والمصلحة السياسية لدى النخبة التشريعية، وأيضا لدى النخبة السياسية الحاكمة –لا سيما فى السلطة التنفيذية وأجهزتها على اختلافها- حيث يميلون إلى الإبقاء على المنظومات القانونية القائمة لأنها تساعدهم فى السيطرة على المجال العام، ولأنها تنطوى على حماية لمصالحهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. 7- الغالبية العظمى من القوانين تتقدم بها السلطة التنفيذية كمشروعات قوانين إلى البرلمان لتمريرها من خلال الأغلبية البرلمانية، أو تصدر كقرارات جمهورية بقوانين فى الحالات المنصوص عليها دستوريا، والتى قد يتجاوز مصدرها الضوابط المحددة لها. للأسباب السابقة يبدو حكم القانون قائمًا على هيمنة المصالح المسيطرة للنخبة الحاكمة، ومن ثم ضعف التوازن بين المصالح المتنازعة والمتصارعة بين الفئات الاجتماعية المختلفة، وعدم إيلاء المصالح الاجتماعية للفئات العريضة أهمية إلا لأسباب تتصل بالاستقرار السياسى والأمنى. وتبدو تحيزات القانون للفئات الأكثر ثراءً فى النظام الضريبى الذى لا يأخذ بالضرائب التصاعدية على الدخل، أو فى إعطاء مزايا واسعة للمستثمرين.. إلخ. يبدو تحيز القانون لصالح السلطة الحاكمة فى مجال ضبط وتقييد الحريات العامة، وهو ما يظهر فى قانون التظاهر، حيث يميل المشرع إلى مصالح نخبة الحكم على مصالح المواطنين فى ممارسة الحق فى التظاهر السلمى للتعبير عن آرائهم ومواقفهم ومصالحهم إزاء سياسات الدولة وسلطاتها والنظام، وذلك على نحو سلمى كى تستجيب لمطالبهم أو بعضها فى سياساتها أو قراراتها أيا كان مجالها. يحتاج مبدأ دولة القانون إلى نظرة إصلاحية مغايرة عن تلك الرؤية والإدراك التسلطى الذى ينظر إلى القانون كأحد أدوات السيطرة والهيمنة على المجال العام، أو بوصفها مجرد أداة من أدوات السلطة السياسية الأساسية لتحقيق مصالحها، ومن ثم يتعين على السلطات العامة أن تحترم جوهر القيم الدستورية والقانونية وروحها، وأعمال أحكامها على هذه السلطات وأجهزتها أولاً، وفى تطبيقهم للدستور والقانون فى أعمالهم، وللروح الدستورية ذاتها. لا إصلاح سياسيا دون إصلاح دستورى وقانونى يعلى من شأن الحريات العامة والشخصية معًا، وهو المدخل للإصلاح الشامل فى البلاد، وإعادة التوازن بين الحكام والمحكومين ورأب الصدوع بين الحكام والمحكومين، وبين الأجيال المصرية الشابة والغاضبة، وبين الحكم، والأجيال الأكبر سنًّا، حتى تتحول السلطة الحاكمة إلى قوة دعم للمستقبل المصرى، لا معول وأد وهدم، للحيوية الجيلية والسياسية للشباب المصرى الغاضب. من هنا نبدأ كما قال خالد محمد خالد.