ساهمت مجلة أكتوبر الغراء معنا في إعادة صياغة النظام الدستوري المصري بعد أن أخذت لجنة وضع الدستور بوجهة نظرنا المنشورة في التعديلات الدستورية المتعددة في دستور 2013 والتي سبق أن اقترحناها في مقالات متعددة تم نشرها في أكتوبر. فقد أوضحنا في مقالات سابقة لنا منشورة في مجلة أكتوبر بعد سريان دستور 2012 في 25/12/2012 وحتى 30/6/2013 وقد أظهرنا في المقالات المذكورة العيوب الجسيمة التي تضمنها الدستور المصري المعلق لسنة 2012. ومن الموضوعات التي اقترحنا تعديلها المادة 76 من دستور 2012 المتعلقة بالأساس الدستوري للتجريم والعقاب لتكون على النحو الصحيح الوارد في المادة 95 من دستور 2013 وكذلك ما سبق لنا أن اقترحناه من تعديل للمركز القانوني للنيابة الإدارية ومنحها حق توقيع الجزاء التأديبي ومطالبتنا بضرورة وضع نص دستوري خاص للعدالة الانتقالية ومطالبتنا بتعديل المركز القانوني للمحكمة الدستورية العليا وإلغاء مجلس الشورى ونسبة العمال والفلاحين وغيرها من المقالات المنشورة في مجلة أكتوبر والمتعلقة بدستور 2012 المعلق. وسوف نتناول في المقال الماثل ما أخذ به المشرع الدستوري بوجهة نظرنا المنشورة في مجلة أكتوبر بتاريخ 10/2/2013 في مقال مدى حق محكمة الجنايات في تجاوز مدة السنتين المقررة للحبس الاحتياطي وبناء على هذا المقال ومؤلفنا الذي يحمل عنوان شرح جرائم الرؤساء ومحاكماتهم فقد قامت لجنة وضع الدستور بتعديل المادة 76 من دستور 2012 المتعلقة بالأساس الدستوري للتجريم والعقاب لتكون على النحو الصحيح الوارد في المادة 95 من دستور 2013 وهي المادة التي تتضمن أن العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون . وقد تضّمن الدستور المصري الجديد لسنة 2013 الأخذ بوجهة نظرنا وقام بوضع أسس جديدة للقانون الجنائي الدستوري criminal constitutional law وأسس جديدة للقواعد الدستورية العليا للتجريم والعقاب والإجراءات الجنائية في النظام القانوني المصري. وهذا الأمر يهم المتخصصين وغير المتخصصين من المواطنين، وذلك نظرا لتأثيره المباشر على القواعد الجنائية التي سوف تُطبّق عليهم، ويمكن تعريف القانون الجنائي الدستوري بأنه النصوص الدستورية الواردة في الدستور والمبادئ فوق الدستورية ومبادئ القانون الدستوري الدولي التي تنظم الشرعية الدستورية والإجرائية في قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية والتشريعات الجنائية الخاصة. وقد تناول الدستور الجديد نوعين من قواعد القانون الجنائي الدستوري، على النحو التالي : النوع الأول : القواعد الدستورية الحاكمة للتجريم والعقاب في قانون العقوبات : ويتبيّن هذا النوع من القواعد في تطبيقات القانون الجنائي الدستوري على قانون العقوبات، ويتمثل تأثير قواعد القانون الجنائي الدستوري على قانون العقوبات في أنه يّلزم المشرّع العادي – إلزامّا قطعيّا - مستقبلا - بقواعد وأصول موضوعية مجرّدة في التجريم والعقاب، وذلك لأن قانون العقوبات يُعتبر من خلال نصوص التجريم والعقاب هو الحماية القانونية والواقعية لحقوق المجني عليه والمصلحة العامة بحكم الضرورة الاجتماعية التي تتطلب هذه الحماية ، ويفرض قانون العقوبات الجزاءات الجنائية المختلفة والتي يجب أن تتميز بالتناسب ون المعقولية، كما يجب على التجريم والعقاب ألا يتعارض مع المنطق والمعقولية التي ينبغي أن تكون إطارا له. ويجب أن يكون ذلك من خلال قواعد عامة مجرّدة ومعايير واضحة تتضمنها النصوص الدستورية الحاكمة للتجريم والعقاب والإجراءات الجنائية، وهي تتمثل في ضمانات يتعين على المشرع الجنائي الالتزام بها بعد صدور الدستور الجديد. النوع الثاني : القواعد الدستورية الحاكمة للتجريم والعقاب في قانون الإجراءات الجنائية : ويظهر هذا النوع من القواعد في تطبيقات القانون الجنائي الدستوري على قانون الإجراءات الجنائية، ويتمثل تأثير قواعد القانون الجنائي الدستوري على قانون الإجراءات الجنائية في أنه يّلزم المشرّع العادي – إلزامّا قطعيّا - مستقبلا بقواعد وأصول موضوعية مجرّدة في الإجراءات الجنائية – العامة والخاصة – التي يتم بمقتضاها مباشرة الدولة لحقها الدستوري في التجريم والعقاب وحماية حقوق كل من الدولة والمتهم والمجني عليه وحماية المصالح الدستورية والقانونية للدولة والأفراد. وقد تشكل الإجراءات الجنائية بطبيعتها خطورة على بعض الحقوق والحريات لذلك يتعين كفالة الحقوق والحريات في مواجهتها، ويؤكد ذلك القاعدة الدستورية الدولية التي تقرر أن الأصل في المتهم البراءة ، وتأسيسا على أن الدستور يضع ضمانة قضائية كبرى هي أن القاضي هو الحارس الطبيعي للحقوق والحريات العامة والخاصة، وذلك في نطاق ما يضمنه الدستور من محاكمة دستورية عادلة ومنصفة. وكل ذلك يتم من خلال معايير ينص عليها الدستور تتمثل في ضمانات يتعين على المشرع الجنائي مراعاتها والالتزام بها تنفيذا لأحكام الدستور الجديد. التطبيقات العملية الجديدة للقانون الجنائي الدستوري في الدستور الجديد : يُعتبر الدستور المصري المعطل لسنة 2012 نموذجًا غير مسبوق في تطبيق القانون الجنائي الدستوري حيث نصت المادة 76 في دستور 2012 المعطل على أنه : "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة (إلا بنص دستوري) أو قانوني، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون" . وهذا النص الغريب يفتح المجال لإرساء قواعد دولة الفقيه وتحويل مصر إلى دولة دينية ويجبر القضاة على الحكم بما يراه الفقيه – دون النظر إلى مدى التزام الفقيه بالشريعة الإسلامية من عدمه – كما يؤدي هذا الاتجاه إلى تقييد الحقوق والحريات العامة التي يضمنها القانون الجنائي. وقد قامت لجنة العشرة لدستور 2013 بتعديل هذا الخطأ الدستوري الجسيم والذي جعل في نظرنا من الدستور كأنه قانون عقوبات ديني بحت يقوم بالتجريم والعقاب على خلاف القواعد فوق الدستورية المتعارف عليها في القانون الدستوري الدولي، حيث نصت المادة 70 من مشروع دستور لجنة العشرة على أنه : "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون". وقد أخذت بذلك كله المادة 95 من الدستور المصري الجديد لسنة 2013 حيث نصت على أن : "العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون". وهذا تطبيق طبيعي للقانون الجنائي الدستوري المتعارف عليه في القانون الدستوري الدولي والمقارن والذي لا يخالف الأصول السامية للشريعة الإسلامية الغرّاء باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع وذلك في نصوصها قطيعة الثبوت وقطعية الدلالة. وسوف نتناول فيما يلي التطبيقات العملية للقانون الجنائي الدستوري في الدستور الجديد بشأن قانون الإجراءات الجنائية وقانون العقوبات وقانون السلطة القضائية، وذلك فيما يلي : أولا : الاتجاهات الجنائية الدستورية في دستور 2013 : احتوى مشروع الدستور المصري الجديد لسنة 2013 على الاتجاهات الإجرائية والموضوعية الجنائية الحديثة في القانون الجنائي الدستوري وذلك فيما يلي : 1- تأكيد ضرورة قيام الدولة القانونية وأن سيادة القانون هي أساس الحكم في الدولة وذلك بمقتضى مضمون المادة 94 من مشروع الدستور. 2- التأكيد على مبدأ شخصية العقوبة وذلك بمقتضى مضمون المادة 95 من مشروع الدستور. 3- التسليم بمبدأ أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته وذلك بمقتضى مضمون المادة 96 من مشروع الدستور. 4- حماية وصيانة الحق في التقاضي وذلك بمقتضى مضمون المادة 97 من مشروع الدستور. 5- التأكيد على كفالة حق الدفاع وذلك بمقتضى مضمون المادة 98 من مشروع الدستور. 6- حماية حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وذلك بمقتضى مضمون المادة 99 من مشروع الدستور. 7- ضرورة إصدار الأحكام وتنفيذها باسم الشعب وذلك بمقتضى مضمون المادة رقم مائة من مشروع الدستور. ثانيا : الاتجاهات الإجرائية والموضوعية القضائية الدستورية في دستور 2013 : احتوى مشروع الدستور المصري الجديد لسنة 2013 على الضمانات القضائية الحديثة في القانون الجنائي المقارن، وذلك فيما يلي : 1- التأكيد على استقلال السلطة القضائية وقيام المحاكم عليها وذلك بمقتضى مضمون المادة 184 من مشروع الدستور. 2- التأكيد على استقلال كل جهة أو هيئة قضائية بشئونها القضائية الخاصة بها وذلك بمقتضى مضمون المادة 185 من مشروع الدستور. 3- التأكيد القاطع على استقلال القضاة وعدم قابليتهم للعزل وذلك بمقتضى مضمون المادة 186 من مشروع الدستور. 4- ضرورة علنية الجلسات وعلنية النطق بالأحكام – كقاعدة عامة - وذلك بمقتضى مضمون المادة 187 من مشروع الدستور. 5- التأكيد على اختصاص القضاء بالفصل في كافة المنازعات والجرائم وذلك بمقتضى مضمون المادة 188 من مشروع الدستور. 6- بيان اختصاص النيابة العامة واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من القضاء العادي وعدم تبعيتها للسلطة التنفيذية وذلك بمقتضى مضمون المادة 189 من مشروع الدستور. www.drmourad.net - E-mail:[email protected]