لقد أثار حكم محكمة استئناف القاهرة –دائرة رجال القضاء – بإعادة المستشار عبد المجيد محمود لمنصب النائب العام حالة من الجدل التى عمقها تعليق أستاذنا المستشار الجليل طارق البشرى عليها –بتأييده للحكم المذكور– غير أن أهم التساؤلات التى أثارها ذلك الحكم هو العلاقة بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية فى أعقاب الثورات، وأيهما تكون الأوْلى بالرعاية؟ والتطبيق فى مثل حالتنا . هنا أرى لزاما علىَّ التأكيد على جملة الحقائق التالية : 1- أن الثورة ضد نظام الحكم تكون فى أصلها عملا غير مشروع؛ لأنه يقع بالمخالفة للنصوص الدستورية والقانونية القائمة والسارية وقت نشوبها، أيا كانت طبيعة. هذه الثورة– دموية حمراء أم سلمية بيضاء- وأن الثورة تعصف ليس فقط برأس الدولة، وإنما كذلك بأركان نظام حكمه كافة ومواليه من جذوره. 2- أنه يترتب على نجاح الثورة سقوط الدستور وتعطيل النصوص التشريعية المنظمة لنظام الحكم فى الدول. 3- أنه لا تكون هناك أية قوة تنفيذية، كما لا تكون هناك أية شرعية سوى للقرارات التى تصدر عن السلطة الفعلية الحاكمة للبلاد وقت الثورة، سواء سُميت هذه القرارات "إعلانات دستورية" أو "قرارات جمهورية" أو "مرسوم بقانون". فكلها ذات مرتبة واحدة. 4- أنه بعد نجاح الثورة تظل الشرعية فقط للقرارات الصادرة عن قادتها، حتى تتكون مؤسسات دستورية، فتنتقل إليها سلطات الحكم فى الدولة، بعد وضع دستور جديد وتشكيل برلمان منتحب يأتى بحكومة تدير دفة الأمور فى البلاد. 5- أن الدستور الجديد، ونصوصه تصبح هى الحديث الوحيد المعبر والكاشف عن إرادة الشعب بعد الثورة، وهو وحده الذى يبطل أى عمل أو قرار تمخضت عنه الثورة أو يحصنه، ومن ثم فإن النصوص الانتقالية التى يتضمنها الدستور تتولى تبنى القرارات الصادرة عن السلطة الفعلية للبلاد حال الثورة أو إلغائها. 6- أن حكم إعادة النائب العام السابق (عبد المجيد محمود) أهدر نصوصا دستورية قاطعة فى دلالتها جاءت لتقنن الشرعية الثورية بعد أن أقرها الشعب -مصدر السلطة وصاحب السيادة– بقبوله للدستور الجديد الذى تضمنها، بزعم عدم شرعيتها، واستنادا إلى ما افترضت أنها مخالفة لما أسمته "مبادئ فوق دستورية"، ومن ثم فقد أهدر إرادة الشعب فداء لمبادئ غير دستورية وحتى هذه الأخيرة لا تتعارض البتة مع مقتضيات الشرعية الثورية التى تنشأ لقرارات وأعمال الثورة . حيث أقر الدستور صراحة فى المادة (236) سلطة كل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ثم رئيس الجمهورية –بوصفهما السلطة الفعلية التى كانت تدير البلاد عقب الثورة - فى إصدار إعلانات دستورية خلال المدة من 11/2/2011م وحتى تاريخ العمل بالدستور ثم ألغاها وأبقى نفاذ ما ترتب عليها من آثار فى الفترة السابقة على العمل بهذا الدستور. غير أن المحكمة ألقت بهذه النصوص عرض الحائط غير عابئة بدستور ولا بثورة فجاء حكمها مخالفا للدستور . 7- إن أحد مهام التشريع الأساسية بمختلف درجاته -دستورا كان أو قانونا- هو تلبية احتياجات المجتمع الذى يحكمه؛ تحقيقا لاعتبارات الصالح العام المتمثلة فى وجود دولة تقوم على مبادئ الحق والعدل والحرية والمساواة والتعددية والتداول السلمى للسلطة... ولا شك أنه فى مراحل التحول الديمقراطى، خاصة أعقاب الثورات، تكون هذه التشريعات موجهة ضد طغمة حاكمة -أشخاص بعينهم– سيطرت على مقاليد الأمور فى البلاد، لا سيما فى تنظيمها للمراكز القانونية الحاكمة التى لا يتصور أن يشغلها فى ذات الوقت سوى شخص واحد ( رئيس الجمهورية – رئيس الوزراء – النائب العام ...) هؤلاء هم من قامت عليهم الثورة.. هنا يصطدم التحول الديمقراطى بقواعده المعروفة التى تحكمه، وأهمها قواعد الشرعية الثورية ونظرية السلطة الفعلية، مع قواعد الشرعية الدستورية والقانونية، وأهمها العمومية والتجريد وتدرج التشريع والفصل بين السلطات والتوازن بينها، حينها لا بد لعملية التشريع أن تسمو لتواكب حالة التألق النضالى للشعوب؛ تحقيقا للمصالح العليا للبلاد، فى هذا الإطار تأتى قواعد الشرعية الثورية مدعومة بمبادئ سيادة الشعب، وأنه مصدر كل السلطات، وأن إرادته - صريحة كانت أو ضمنية -تعلو على كل سلطات الدولة، وعلى أى قوة تقوم عليها هذه السلطات، وتستعصى رقابتها على رقابة القضاء عموما، هذا هو دور الشرعية الثورية التى تأتى لتحرر الأوطان من طغمة حاكمة مستبدة لن ترقى مفاهيم القواعد القانونية التقليدية ولا مفاهيم الشرعية لتواكب حركة الشعوب وتلبى احتياجاتها فى التخلص من هؤلاء توطئة لبدء عهد جديد . وعلى ذلك لا يمكن تحت أى مفهوم وبموجب أى غطاء قانونى لثورة أقصت رأس نظام فاسد، ألا تتمكن من إقصاء نائبه العام، وقد كان رأس حربته والحصن الحصين له ولسدنته . لذا تأتى قرارات الشرعية الثورية فى ضوء ما يجب أن يتحلى به المشرع الدستورى والقانونى من نزاهة وحرص على رعاية ثورة وليدة هدمت لتوها نظاما مستبدا فاسدا، فيكون أحرص ما يكون على تلبية احتياجات المجتمع الأساسية، وأهمية استشراف المستقبل والحفاظ على المصالح العليا للمجتمع، ومن ثم فإن هذه القرارات تسمو -لا ريب- على اعتبارات العمومية والتجريد. يا سادة ... لا يمكن للقضاء أن ينظر فى الفراغ ... بعيدا عن المجتمع الذى يحكمه... منطلقا من أن ثورة عظيمة قد مرت من هنا، وأنه بحكم رسالته ومسئوليته التاريخية أحرص سلطات الدولة على الانتقال بهذه الثورة من التنظير إلى الواقع، وعلى اكتمالها لتطول المجتمع المصرى بأثره، بدءا من منظومة القيم السائدة فيه ومرورا ببنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وانتهاء بنظام الحكم فيه. هذه هى رسالة القضاء التى يجب ألا يخطئها . والله من وراء القصد وهو الهادى إلى سواء السبيل .