إيران تبدأ رابع موجة من هجومها الصاروخي على إسرائيل    الطوارئ الإسرائيلية: أكثر من 70 إصابة جراء ضربات الصواريخ الإيرانية منذ بدايتها    أشرف داري ل«المصري اليوم»: درسنا إنتر ميامي ونعرف ميسي جيدا (فيديو)    بالفيديو ..تامر حسني لجمهور الكويت : هتقوني علشان اغني ..انتوا عارفين الظروف    كأس العالم للأندية، موعد مباراة بوكا جونيورز ضد بنفيكا والقنوات الناقلة    علقة موت لمدرب كمال أجسام تعدى جنسيا على طفلين بالفيوم    تعرف على أسماء وأماكن لجان الثانوية العامة 2025 بمحافظة الشرقية    مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية: إسرائيل دمرت الجزء الموجود فوق سطح الأرض من منشأة نووية إيرانية رئيسية    واقعة ياسين تتكرر.. والدة طفل تتهم مدرب كاراتيه بهتك عرض نجلها بالفيوم    قناة مفتوحة لنقل مباراة الأهلي وانتر ميامى في كأس العالم للأندية    الآن.. موعد نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس وخطوات الاستعلام الرسمي    معاذ: جماهير الزمالك كلمة السر في التتويج ب كأس مصر    فرنسا تحذر مواطنيها من السفر إلى الشرق الأوسط    مندوب أميركا أمام الأمم المتحدة: نسعى لحل دبلوماسي يمنع إيران من امتلاك سلاح نووي    إنفانتينو: بطولة كأس العالم للأندية ستكون لحظة تاريخية فى كرة القدم    حدث منتصف الليل| خطة الحكومة لتأمين الغاز والكهرباء.. وهبوط 5 رحلات اضطراريا بمطار شرم الشيخ    مؤتمر أخبار اليوم العقاري.. «رواد القطاع العقاري يضعون خارطة طريق لمستقبل الصناعة»    اعرف رد محافظ الإسكندرية على جزار يبيع كيلو اللحمة ب700 جنيه.. فيديو وصور    رئيس جامعة سوهاج في ضيافة شيخ الأزهر بساحة آل الطيب    ريبيرو يوجه رسالة حاسمة بشأن مراقبة ميسي.. ويشعل حماس لاعبي الأهلي «فيديو»    كوكا: من الصعب إيقاف ميسي.. ولن ألعب في مصر لغير الأهلي    ميسي يتوعد: كأس العالم للأندية فرصة لصناعة التاريخ مع إنتر ميامي    الدبيكي: إعتماد إتفاقية «المخاطر البيولوجية» إنتصار تاريخي لحماية العمال    هل تتأثر قناة السويس بالصراع الإسرائيلي الإيراني؟.. الحكومة ترد    الأزهر يدين العدوان الصهيوني على إيران ويطالب بوقف الانتهاكات الصهيونية بحق دول المنطقة    الجنح تسدل الستار في قضية انفجار خط الغاز.. اليوم    مصرع فتاة سقطت من الطابق السادس بسوهاج    قبل وفاته مع «حذيفة».. «محمود» يروي لحظات الرعب والانفجار ب خط غاز طريق الواحات: «عينيا اسودّت والعربية ولّعت»    ضبط عاطل وراء إشعال النار بشقة والده في الطالبية    الكويت تدعو مواطنيها فى مناطق التوتر بتوخى الحذر والمغادرة حال سماح الظروف    مراسل برنامج الحكاية: فوجئنا بوجود أجانب على كارتة الاسماعيلية    «قصور الثقافة» تعرض طعم الخوف على مسرح مدينة بني مزار.. غدًا    تامر عاشور يظهر بعكاز فى حفل الكويت.. صور    كاتب سياسي: رد إيران يشمل مئات الصواريخ الباليستية لم تشهد تل أبيب مثيل لها    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    احذرها.. 4 أطعمة تدمر نومك في الليل    «تضامن الدقهلية» تطلق قافلة عمار الخير لتقديم العلاج بالمجان    7 خطوات أساسية من المنزل لخفض ضغط الدم المرتفع    أطباء بالمنيا يسطرون ملحمة إنسانية داخل غرفة العمليات وينقذون مريضة ووليدها    4 أبراج يتسمون ب «جاذبيتهم الطاغية»: واثقون من أنفسهم ويحبون الهيمنة    «الأهلي في حتة عاشرة».. محمد الغزاوي يرد على المنتقدين    محمد صبري: شيكابالا من أساطير الزمالك وله الحرية في تحديد موعد اعتزاله    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 14 يونيو 2025    سعر الذهب اليوم السبت 14 يونيو محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير (تفاصيل)    تراجع سعر طن الحديد الاستثمارى وعز وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 14 يونيو 2025    مصرع عاملين وإصابة 12 آخرين في انقلاب ميكروباص بالعياط    بعد نصف قرن على رحيلها.. صوت أم كلثوم يفتتح تتر مسلسل «فات الميعاد»    طوارئ نووية محتملة.. السعودية توضح: لا مواد مشعة في مياه المملكة    إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والمدارس في مصر رسميًا (الموعد والتفاصيل)    نائب رئيس جامعة القاهرة يتفقد امتحانات الفرقة الأولى بطب قصر العيني (صور)    رسالة ماجستير فى كينيا تناقش مفهوم الخطايا عند المسلمين والمسيحيين.. بعض الخطايا لا نتغاضى عن الاعتراف بها.. ويحب على الجميع مواجهتها    علامات إذا ظهرت على طفلك يجب الانتباه لها    خطيب المسجد النبوي: الرحمة صفة تختص بالله يرحم بها البر والفاجر والمؤمن والكافر    مطار شرم الشيخ يستقبل رحلات محوّلة من الأردن بعد إغلاق مجالات جوية مجاورة    خطباء المساجد بشمال سيناء يدعون للوقوف صفا واحدا خلف القيادة السياسية    بعثة حج الجمعيات الأهلية تنظم زيارات الروضة الشريفة    الدولار الأمريكي يرتفع متأثرا بالضربة الإسرائيلية على إيران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استمارة ستة ماجدة الجندى
نشر في التحرير يوم 12 - 07 - 2013

وأنا فى الطريق كنت أعرف ما ينتظرنى.. إنهاء أو البدء فى إنهاء.. «فك الأواصر».. هكذا عنونت طبيعة المهمة، لكن ما لم أكن أعيه تلك الشلالات من الألم الكامن التى راحت تحبس أنفاسى وتجفف ما تبقى من قطرات ريقى فى أول أيام الشهر الكريم..
عرفت قبلها بشهور فى الموعد المحدد لبلوغى الستين، كنت فى ذروة الشعور بالحماس للعودة إلى الحياة بعد سنوات أربع، أقاوم خلالها مخالب وسنون، نصل الخفوت وانسحاب الروح كان «الحلم» فى مقدمة أسلحتى المقاومة.. ألوذ به حين يسحبنى الألم إلى قراره السحيق، أبارز به الأوجاع والغياهب ومتاهات الانسحاب القسرى.. تواكُب أزمنة عجيبٌ أو هكذا استشعرته، فى اللحظة التى بدا لى أن عمرا جديدا قد منَّ الله به علىّ، كان علىّ أن أرضخ لإقصاء سابق للأوان.. نعم سابق للأوان، كنت أمنِّى نفسى مغمضة العينين، بالبرهة الباقية، أحصيتها ما بين الستين والخامسة والستين خمس سنوات، ستون شهرا، ألف وثمانمئة وخمسة وعشرون يوما.. طول عملى بالصحافة منذ 1972 لم أر هذا العرف ينكسر على المدى.. لا إحالة، لا تقاعد لقلم.. طافت بمخيلتى وجوه وأقلام لم ترفع إلا بصعود أرواح أصحابها، كنت أحصى الوقت وأحسب، أجمع وأطرح سنوات التشبث والمقاومة، أعدها أربعا، كيف لا أفعل، ما زالت جُمَلى ناقصة، العبارة منقوصة، الفقرة لم تكتمل بعد، لم يزل هناك ما يمكن أن تمنحه.. لم تطو صُحفى.. لكن صوت زميلى فى شؤون العاملين جاءنى محملا باعتذار دفين، بخفوت لم أعتده طوال سنوات عمله بشؤون العاملين، كان مهذبا حانيًا، يحاول بأقصى ما يمكنه أن يبدو صوته ودودا.. كأنما هو نفسه صاحب القرار بالإقصاء وفك الأواصر وليس الذى أجلسته الظروف على المقعد. كم مرة خاب سعىى إليه: «أريد أن أعمل» قبل أن يأزف الوقت، كنت أريد اللحاق بما تبقى، أقبض عليه، أخشى «سرسبة» الزمن.. الملحق.. المنحة الربانية تحيلنى لمعنى دوما كان ملازما منذ سمعت أبيات سيد حجاب الشجية «ما تسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا ولا تنتهيش ده احنا يادوب ابتدينا».. «يادوب ابتدينا».
للبداية حلاوة وطلاوة وزخم وتفجر مدفوع بالشوق، الشوق المكتوم أو الذى ظل مكتوما غير متيقن لما سوف يؤول إليه..
أيقنت وزميل آخر من شؤون العاملين يحاول أن يشرح لى المطلوب، وهو يناولنى أوراقا، أن علىّ أن أضاعف من جهدى حتى لا تطول اللحظة.. كان وجه الزميل موجها إلى شاشة الكمبيوتر، بينما استضافنى زميل آخر شديد اللطف، على مقعد مجاور لمكتبه، وكأنما أدرك مقدار ثقل اللحظة ووطأتها، وانطلق بصوته مازحا: «والله كنت أجيب شاى ولا قهوة بس رمضان كريم» رددت بصوت حاولتُه بشوشا «لا إنت فاكر أنا حاسيب حقى، بعد رمضان شاى ويمكن غدا». كنت فى الواقع أبعد ما أكون عن فهم ما يجرى، أوراق وتوقيعات.. اكتشفت أن الأواصر المطلوب الآن فكها أو على الأقل تحجيمها أشبه بالانفصال بين البشر.
بينما كان زميل يرتب أوراقا مفروضا أنها تخصنى وجدتنى أتجه بسؤال رغم عنى إلى زميلى الذى يستضيفنى «هو أنا علاقتى تنتهى تماما بالمؤسسة مع الإحالة للمعاش؟».. كنت أعرف أن سؤالى شديد السذاجة، بل إنه لفرط ما يبدو ساذَجًا قد يثير الضحك، كأن طرفا يسأل بعد الطلاق هو احنا مش هانعيش مع بعض بعد كده؟! حاولت أن أضحك من نفسى أو أُضحك نفسى لأكسر تلك الحلقة الخانقة. وأفقت على صوت الزميل المعنىِّ بأوراقى.. «من فضلك يا أستاذة عاوز اسمك وتوقيعك هنا..» وأشار إلى موضوع يتوسط صفحة أولى ضمن عدة أوراق مدبسة (يمسكها دبوس) وما إن انتهيت حتى نبهنى.. (التوقيع على كل الأوراق فى نفس الموضع..).. سألته: ده إيه؟ قال دى استمارة ستة.. وأسعفنى مخزون ذاكرة السينما المصرية.. (تاخد استمارة ستة) «يعنى نهاية شغلك» وتذكرت نكتة لزميل، ربما أول من استخدم أمامى تعبير استمارة ستة، كان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاما، كان معروفا بأن قصص حبه لا تدوم، وكان التعبير الذى يعلن به نهاية العلاقة (إديتها استمارة ستة).
وقعت بسرعة المطلوب، متصورة أن التوقيع هو كل المطلوب، لكنى اكتشفت أن استمارة ستة، هى خطوة على الطريق، لكنها أهم خطوة، فالتوقيع عليها يعنى أن كل طرف راح لحاله، واللى فاضل تفاريح!
اكتشفت أننى وقّعت بسرعة وحماس، كأننى أريد أن أتخلص مما يثقلنى.. راح زميلى مستجمعا كل طاقته يشرح لى خارطة طريق ما بعد استمارة ستة.. مطلوب: إقرار ذمة مالية.. (عاوزين نشوف لما دخلت المؤسسة كان إيه الوضع وبعد ما خرجت إيه الوضع» قالها فى سياق الهزار أو كسر حالة لخبطة تواجهنى أمام إجراءات الروتين.
إخلاء طرف.. حيث إننى كنت أعمل «رئيس تحرير» فى واحدة من إصدارات المؤسسة على أن أخلى العهدة، ومن العهدة دباسة وخرامة ومقص وقطاعة سيلوتيب وسقف كتب..
قال زميلى مداعبا -أو جادا لا أعرف- لا يمكن صرف أى مستحقات قبل إخلاء الطرف.. استنجدت بزميلى الذى حل محلى (أرجوك الدباسة والخرامة وقطاعة السيلوتيب وقبلهم طقم المكتب والتليفزيون..».
بدأ الأمر يأخذ داخلى مسارا ساخرا.. كيف تختزل العلاقة فى الدباسة والخرامة وقطاعة السيلوتيب؟! (هل ثمة شبه ما بين «القايمة» فى الزيجات المصرية وإخلاء الطرف بتاع الدباسة والخرامة.. وأيضا أباجورة المكتب؟)..
راح زميلى الطيب يقرأ علىّ حقوقى..
مكافأة نهاية الخدمة، مئة جنيه بشيك من اللجنة النقابية، شيك من صندوق الزمالة مئة جنيه، واشتراك بالجريدة التى كنت أعمل بها.
لا يتم صرف المعاش إلا بعد إحضار خطاب موافقة تحويل المعاش من البنك أو مكتب البريد..
أكد زميلى على الفرق بين أن يكون لك حساب فى بنك وبين أن تأتى بموافقة من البنك تفيد قبول تحويل «المعاش» عليه.. رددت الكلمة «المعاش» «المعاش» أى معاش؟ معاشى أنا؟! أنا الآن على المعاش.. هل فعلا أنا على المعاش؟! يعنى إيه معاش؟! لا أذكر نفسى إلا وأنا فى تلك المهنة الشقية الشهية، البهيجة، المتجددة التى فى عمر الأحلام لم تكن مسعاى، بل كانت هى الرحم التى منه ولدت، بعد رحم أمى، فكأننى قد انفردت برحمين.. لا أذكرنى ولا أعرفنى بدونها.. وجدتنى فى قلبها وعمرى لم يتجاوز الثامنة عشرة.. اثنان وأربعون عاما أتنفسها، ولا أعرف عملا غيرها، هل يملك أحد القرار بوقفى عنها؟!
كنت فى بداية عامى الأول فى الجامعة، بكلية الآداب جامعة القاهرة، بعد أن أنهيت دراستى ب«ليسيه الحرية» بباب اللوق.. أستقل الأوتوبيس النهرى من مَرسى مصر القديمة إلى كوبرى الجامعة، من تلك الرحلة خرج أول تحقيق «الحياة على حافة النهر» عن هؤلاء البسطاء.. صيادى النهر الذين ليس لهم فى مصر ومن مصر إلا «القارب» هو البيت والعمل.
أربعون عاما وأزيد بعامين لم أمارس خلالها غير الصحافة.. سألت زميلى بغتة: كم يبلغ معاش الصحافة بعد تلك الرحلة؟! جز على أسنانه وضغط على شفتيه وهمس.. ألف ومئة جنيه.. وعلشان ما تزعليش ممكن يوصلوا ألف ومئتين.
ألف ومئتان واثنان، وأربعون عاما من الصحافة.. بكم يقف العام من العمر الشقى البهى فى بلاط صاحبة الجلالة؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.