قبائل الأزتيك كانت تقدّم مشروبات مصنوعة من الكاكاو والماء الملطّخ بالدم لصون أرواح الضحايا أعود إليه من وقت لآخر، ليس لصعوبة أفكاره أو حتى لأنه كتاب عظيم، بل على العكس فهو كتاب سيئ الترجمة وبعض أفكار مؤلفته غير مترابطة، لكنى أعود إليه من أجل موضوعه، من أجل متعة القراءة حول شىء أحبّه، أعود إليه أيضًا من أجل صوره الجميلة ومبالغاته الممتعة. «إن أمر الشيكولاته معقد»، كيف لا يجذبك كتاب يبدأ بجملة كتلك؟ بداية موفقة جدًّا، خصوصًا إذا ربطنا الشيكولاتة بهذه العناوين: الدم، المتعة، الجنس، الثورة، والأدب، والأطفال، والعنصرية. لكن ما علاقة الشيكولاتة بهذا كله؟ هذا ما يشرحه هذا الكتاب الصغير الذى لا تتجاوز صفحاته ال200 صفحة، راويًا حكاية الشيكولاتة منذ أن كانت عملة بديلة للنقود وحتى أصبحت ما هى عليه الآن. إن أمر الشيكولاتة معقّد إذا عرفنا أن ما نعرفه منها الآن حديث جدًّا، وهى نتاج عالم مقسوم بين العمل اليدوى المنخفض الأجور والتحول الآلى إلى منتج غذائى، وبين العمال الجياع والمستهلكين المرفهين، وبين الدول ذات البيئة الاستوائية الغنية والقوى الاقتصادية الكبرى فى أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث لا يمكن للشجرة نفسها العيش بصورتها المألوفة، فى أى مكان آخر. إن أمر الشيكولاتة معقّد إذ تم الربط بينها وبين النساء، أول مَن أعدها كمشروب فى جميع أنحاء أمريكا الوسطى، رغم أن غالبية مستهلكيها كانوا من الرجال، وفى منتصف القرن السابع عشر روى الإنجليزى الدومنيكانى توماس غيج قصة أسقف ونساء كاثوليكيات إسبانيات فى ولاية تشياباس تنقلها عنه المؤلفة، تقول: كان المطران طمّاعًا إلى حد ما وفى ما عدا ذلك كان معتدلًا فى حياته وأحاديثه، كما كان متحمسًا جدًّا لإصلاح الانتهاكات التى ترتكب فى الكنيسة التى كلفته حياته، وكانت النساء فى هذه المدينة يتظاهرن بالضعف والإعياء الشديدين من معداتهن، ويقلن إنهن غير قادرات على البقاء فى الكنيسة فى أثناء القداس المختصر، والقداس الدينى السامى، والوعظ الدينى، ما لم يشربن فنجانًا من الشيكولاتة الساخنة، ويأكلن قليلًا من اللحوم لتقوية معداتهن. ولهذا تعوّدن أن يأمرن خادماتهن بجلب كؤوس الشيكولاتة لهن، إلى داخل الكنيسة فى منتصف القداس أو الوعظ، وهذا التصرّف لا يمكن أن يتم دون كثير من البلبلة والمقاطعة للقداس والخطبة الدينية. لاحظ المطران هذا الانتهاك، وأنذرهن للكف عن ذلك، لكن دون جدوى، وفكّر جيدًا فى حل هذه المشكلة من خلال كتابة تحريم كنسى على أبواب الكنائس ضد كل مَن يتجرأ على الأكل والشرب داخل الكنيسة فى أثناء الصلاة، تعقدت المشكلة وسلت سيوف ضد القساوسة والكهنة، وهجرت النساء الكاتدرائية وفى الشهر التالى مرض المطران، ومات وألقى اللوم على امرأة راقية كانت لها معرفة جيدة بأحد خدم الأساقفة، إذ جعلته يقتل المطران بتقديم كوب من الشيكولاتة المسمومة نفسها، التى كان قد حرّم شربها فى الكنيسة. والحقيقة أن بين الشيكولاتة والدم علاقة متشابكة وإن كانت دلائلها قليلة كما يرصد الكتاب، وثمة نص فى تقرير عالم المجتمعات البدائية الفرنسيسكانى برناردينو دى ساهاجون عن طقوس قبائل الأزتيك الدينية، تم أخذه من روايات عدة، وهو يشير إلى أن هناك مشروبات مصنوعة من الكاكاو والماء الملطخ بالدم، كانت تقدم لصون أرواح الضحايا خلال الرقص النهائى، كما أن هناك إلى حد ما صلة أدبية بين حبة الكاكاو «التى على شكل قلب» وقلب الإنسان. كالعادة كانت تقدم الشيكولاتة فى البدايات على أنها من الأطعمة التى تساعد على الشفاء، لكن الطريف أن بعض الناس شربها لتبريد أنفسهم عندما كانوا يشعرون بالحر، وتناولها بعضهم الآخر للتقوى بها فى أثناء الأعمال المتعبة، ووجدها غيرهم مفيدة لاستقرار المعدة، وآخرون فى المساعدة على النوم، ويعتقد معظمهم أنها أفادتهم للغرض الذى أرادوه، لذا يمكن تلخيص المسألة فنقول «الشيكولاتة لما شُربت له». كلما انتشر استخدام الشيكولاتة كلما ازدادت تعقيداتها، خصوصًَا أن إنتاجها كان يعتمد قبل مئتى عام على عبودية الأفارقة «لقد بقيت الشيكولاتة على الدوام تنتج من قبل الفقراء، وتستهلك من جانب الأغنياء، وغالبًا ما يعيش المستهلكون على بعد آلاف الأميال من المواقع الرئيسية للإنتاج فى أمريكا الوسطى». الشيكولاتة ارتبطت بالأدب أيضًا ومن كتابات المركيز دو ساد من ناحية، وكتابات جين أوستن من ناحية أخرى، نستنتج أن الشيكولاتة فى أدب أواخر القرن الثامن عشر مرتبطة تقريبًا وبشكل ثابت مع الفساد والانحلال الأخلاقى للطبقة الأرستقراطية، المدمنة على الترف والغافلة عن معاناة الفقراء، الكتابات التاريخية عن الشيكولاتة غالبًا ما تستشهد بذواقة مثل المركيز دو ساد، كدليل على الجاذبية الفطرية الشهوانية للشيكولاتة «إن روايات دو ساد تنطوى على الاستهلاك المتكرر للشيكولاتة قبل وفى أثناء الحفلات الجنسية»، كما أن رسائله إلى زوجته من السجن تحتوى على طلبات عاجلة ومتكررة لجميع أنواع الحلويات، يكتب مثلًا فى إحدى رسائله منتقدًا زوجته لعدم تلبية رغباته: «الكعكة الإسفنجية ليست أبدًا كل ما طلبته. أولًا أريد أن تكون مغطاة بالسكر والزبدة من كل الجهات، تحتها وعلى سطحها تمامًا مثل الكعكات الصغيرة، ثانيًا أريد أن تحتوى على الشيكولاتة داخلها، فليس هناك أدنى أثر للشيكولاتة، أتوسّل إليكِ أن ترسليها لى فى أقرب فرصة، وتأكدى من أن شخصًا موثوقًا يضع الشيكولاتة فيها، ويجب أن تفوح رائحة الشيكولاتة من الكعك، كما لو كنت تقضم قطعة من الشيكولاتة»، لاحظ أنه كان يكتب ذلك من السجن. ارتبطت الشيكولاتة كما رأينا بالمرأة منذ فتح أمريكا الجنوبية وما بعدها، لكن مع أوائل القرن التاسع عشر ظهر هذا الارتباط فى سياق جديد، حيث تعززت العلاقة بين الشيكولاتة والطفولة، فقد امتلأت إعلانات الشيكولاتة منذ منتصف القرن بصور لأطفال فرحين ممتلئى الجسم بوجوه ملائكية، وقد أصبح تعزيز فكرة العائلة السعيدة، مع التوجه للأمهات كمصدر لهذه السعادة أهم عنصر فى تسويق الشيكولاتة. ورغم ذلك لم يمح «تبييض» الشيكولاتة عبر ربطها بالحليب والطفولة والأسر الوطنية والمناظر الطبيعية لونه كمنتج استعمارى بل على العكس تمامًا، حيث ركزت القوى الاستعمارية خصوصًا الألمانية والبلجيكية على سواد الشيكولاتة، وهكذا أصبحت حلوى الكريمة المغطاة بالشيكولاتة تعرف بأسماء مثل negerkusse أو «قبلات زنجى» مع المبالغة فى العنصرية، بإضافة شفاه منتفخة وحمراء وكبيرة. وعلى طريقة إعلانات الشيكولاتة يمكن أن نقول بشكل عام إن الكتاب مناسب للمزاجات التعيسة والأيام المزدحمة، قراءته تُشبه مشاهدة فيلم وثائقى فى لحظة ملل -أعتبر الأفلام الوثائقية ممتعة- وهروبًا من الروتين. الكتاب تحدث عن مجمل تاريخ الشيكولاتة وارتباطها بالرجال أولًا ثم توجّه الشركات العالمية لتسويقها للنساء «وهنا تكمن القضية» كون النساء -بصراحة- سوقًا حيوية، وكونها تؤدى إلى خمول المرأة وكسلها -كما يقول الكتاب طبعًا- تحدّث أيضًا عن جماليات الشيكولاتة وتاريخ صنعها وجودها وشركاتها العالمية المشهورة التى تعتنى بتفاصيل الجودة. الشىء الأهم أنه تحدّث عن كون الشيكولاتة متعة لها علاقة ما بالجنس والخطايا، وهى ليست فى الأخير إلا اكتشاف رائع يساعدنا على مضغ حياتنا التى لم تعد تحتمل.