منذ اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011، نجت لبنان بمعجزة من أن تكون صدىً لما يحدث في جارتها المرتبطة بها تاريخياً، ولكن الأسبوع الماضي كان شاهداً على عودة بلد الأرز مرة أخرى كمسرح لتصفية حسابات إقليمية بين السعودية وإيران.. تلك الحسابات الممتدة من العراق إلى سوريا إلى البحرين وحتى اليمن، علماً بأن تصاعد وتيرة المواجهة بين الرياض وطهران كان مع مطلع العام الجاري على وقع تنفيذ السعودية حكم بالإعدام بحق المرجع الشيعي الشيخ نمر النمر، وما تبع ذلك من اقتحام وحرق السفارة السعودية بطهران. الحكومة اللبنانية، التي هي نتاج توازن دقيق بين قوى الرابع عشر من مارس بزعامة تيار المستقبل والكتلة السنية الموالية للسعودية، وقوى الثامن من مارس ممثلة في حزب الله ممثل الشيعة ومن معه من فصائل موالية لإيران، رفضت إدانة ما حدث للسفارة السعودية بطهران فما كان من الرياض إلا أنها أوقفت منحة قدرها 3 مليار يورو كانت مقررة لتسليح الجيش اللبناني، كما طلبت من رعاياها عدم الذهاب إلى بيروت، ومنذ بضعة أيام قادت المملكة دول مجلس التعاون الخليجي لتبني قرار يعتبر حزب الله منظمة إرهابية، قبل أن توقف حزمة مساعدات للجيش اللبناني مُمثلة في صفقة أسلحة من فرنسا قيمتها 3 مليارات يورو، فيما يتوقع المراقبون إجراءات أخرى تتمثل في إيقاف الاستثمارات السعودية بلبنان وسحب رؤوس الأموال السعودية من البنوك اللبنانية، فضلاً عن ترحيل عدد من الرعايا البنانين العاملين في الخليج عموماً إلى بلدهم. معسكر الرابع عشر من مارس يضم التجمع السني الأكبر في البلاد وعلى رأسه تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، نجل رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ويتحالف معه جزء من المسيحيين أبرزهم حزب الكتائب المسيحية بقيادة سمير جعجع، وورثة عائلة الجميل بقيادة الرئيس الأسبق بشير الجميل، و جزء من الدروز يقودهم وليد جنبلاط، أما معسكر الثامن من مارس فيضم جميع الشيعة بزعامة حزب الله وحركة أمل وزعيمها نبيه بري، وبعض من الدروز المنشقين على وليد جنبلاط ونصف آخر من المسيحيين هو التيار الوطني الحر ويتزعمه ميشل عون، وحزب المرده الموالي لسوريا ويتزعمه عائلة فرنجيه. في الوقت الراهن انتهى التوازن الهش بين المعسكرين، وكانت هذه الخريطة من التحالفات قد رُسمت منذ 11 عاماً، حيث كانت أصوات يتزعمها رفيق الحريري تتعالى آنذاك برفض الوصاية السورية على لبنان مع حشود في الشوارع تطالب بسحب قوات الجيش العربي السوري من الأراضي اللبنانية، وهو الذي كان متمركزاً بها منذ عام 1976 بناء على قرار من جامعة الدول العربية حينما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية الثانية( 1975-1990)، وفي خضم تلك الأحداث تم اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير من عام 2005 بانفجار مروع استهدف موكبه في وضح النهار وفي قلب العاصمة بيروت. وبعد شهر واحد من مقتله نزلت حشود غير مسبوقة لشوارع بيروت قُدرت بمليون شخص يطالبون بكشف حقيقة مقتله، مع اتهامات مسبقة من طرف السعودية وفرنسا والولايات المتحدة بتورط النظام السوري بقيادة الرئيس بشارالأسد في مقتل الحريري، وكان حزب الله قد استبق مظاهرات الرابع عشر من مارس بمظاهرات في الثامن من نفس الشهر للتنديد بالتدخل الغربي في شئون لبنان، غير أن ضغوط معسكر الحريري كانت الأقوى ما أدى لانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد تواجد استمر 15 عاماً. الحرب الأهلية المستمرة في سوريا منذ 5 سنوات، أخلت بكل التوازنات على المسرح اللبناني، إذ أن أفواج النازحين من دمشق إلى بيروت أثقلت كاهل الاقتصاد اللبناني، إضافة لذلك فإن تدخل قوات حزب الله إلى جانب الجيش السوري في مواجهة المتمردين على نظام حكم الأسد أوجد حالة من الاحتقان الطائفي.. معسكر الثامن من مارس، أو حزب الله لو شئنا الدقة، يمنع انتخاب أي رئيس جمهورية منذ عام 2014، إلا لو كان حليفه ميشل عون، وشريحة كبيرة من المسيحيين اللبنانيين الذين كانوا معارضين للأسد أصبحوا في صفه خوفاً على أشقائهم من نفس الديانة في سوريا والذين كانوا ومازالوا يعيشون تحت حماية نظام الأسد الذي من مزاياه حماية الأقليات، لا سيما مع الفظاعات التي ترتكبها الجماعات المسلحة من أمثال داعش وجبهة النصرة بحق كل من يختلف معهم دينياً ومذهبياً، وحتى وليد جنبلاط، أحد معارضي الأسد في الماضي، يلتزم الصمت حالياً خوفاً على دروز سوريا، أما السُنة فإنهم الآن مترددون أو مجبرون على الاختيار بين الاعتدال الذي يمثله سعد الحريري والتطرف الذي يجسده الشيخ السلفي المتشدد أحمد الأسير المقبوض عليه منذ أغسطس 2015 حيث تم توقيفه في مطار بيروت بينما كان يحاول الهرب بجواز سفر مزور بعد إجراء بعض التعديلات في مظهره. المملكة العربية السعودية التي تتراجع على كل الجبهات الإقليمية أمام إيران، قررت وضع كل ضغوطها على حليفها سعد الحريري بمطالبته، دون تسميته بشكل مباشر، بالخروج من أي تفاهمات مع حزب الله، وهو ما يفسر ما تعانية مجموعة شركات «أوجيه سعودي»، المملوكة لسعد الحريري في السعودية، من صعوبات مالية، حيث اكتشفت الرياض أن كل ما تقدمه له من تسهيلات وللبنان من منح ومساعدات ذهب أدراج الرياح. ويصف الباحث والمحلل السياسي ريحان سلام المقيم بالولايات المتحدة لمجلة Politico، تصرفات السعودية الأخيرة بأنها «طفولية»، وسيكون ضررها الأكبر على معسكرها السني الذي تتزعمه.