إعداد : حمدى حماده حملت عناوين «الولد الشقى» عن طفولته وصباه وقصة بداياته الصحفية وصور متنوعة عن شخصيات عرفها وعاشرها فى السجن وقصة منفاه.. ومن كتبه خفيفة الدم «مسافر على الرصيف» كان كريمًا وعشقه لأسرته بلا حدود ووفاؤه لصديق عمره العمدة إبراهيم نافع كان كبيرًا جدًّا فى أغلب جلساته كان يترحم على أستاذه زكريا الحجاوى.. ويسرد شقاوته مع «طوغان» السعدنى عمدة مصطبة الكلام كان صديقًا للملوك والرؤساء والأمراء والصعاليك والمهمشين والمساجين ثلاثة أعوام مضت على فراق عمنا الكاتب الصحفى الساخر الولد الشقى.. محمود السعدنى قنديل الكتابة الساخرة والمبهجة. رحلَ السعدنى يوم 4 مايو 2010 وفاضت روحه إلى بارئها بعد حياة حافلة بحلوها ومرها وهنائها وبؤسها وشقائها حتى فى مراحل سجنه كان ساخرا ومبتسما، والسعدنى جاء للدنيا يوم 20 نوفمبر من عام 1927، أى منذ ما يقرب من 86 عامًا، والغريب أن يوم ميلاده يتوافق مع يوم ميلاد والده الحاج عثمان، ويوم مولد ابنه أكرم، زميلنا الصحفى فى مؤسسة «روز اليوسف»، والوحيد على زهوره من البنات هبة التى رحلت عن الدنيا قبل وفاة والدها، وهالة المذيعة التليفزيونية، وأمل المحاسبة، وحنان خريجة معهد الفنون المسرحية وزوجة الفنان القدير توفيق عبد الحميد.. هؤلاء الأبناء هم أبناء زوجته الوفيّة والمحبة الحاجة مكارم ابنة الإسماعيلية وشقيقة المؤلف المسرحى عبد الرحمن شوقى، الذى ابتكر شخصية فطوطة، وكتب مسرحيات «هاللو دوللى» بطولة شويكار، و«هالة حبيبتى» لفؤاد المهندس، و«أخويا هايص وأنا لايص» لسمير غانم، وقام بكتابة قصة فيلم «عماشة فى الأدغال» الذى قام ببطولته محمد رضا، الذى كان من أصدقاء السعدنى المقربين، وجمعهما الحاج إبراهيم نافع، عمدة الجيزة.. عموما كانت الحاجة مكارم هى المحبة والصابرة وشاركته فى أفراحه وأحزانه وبحلو العشرة وحتى مرها.. فصبرت وثابرت وقامت بتربية الأولاد ولم تكسرها أو ترهبها الأيام الحالكة التى ابتعد عنها السعدنى فيها حيث السجن والاعتقال ومرارة الغربة، بل إنه تم حبسه فى واقعة طريفة فى أثناء زيارة صحفية لسوريا قبل الوحدة مع مصر، بسبب رسالة تسلمها السعدنى من أعضاء الحزب الشيوعى السورى لتوصيلها إلى الرئيس جمال عبد الناصر فقام بتسلميها لأنور السادات ودون أن يعلم محتواها، وكانت تتضمن تهديدا لعبد الناصر، لذا تم إلقاء القبض عليه، وتم سجنه لما يقارب العامين، ثم أفرج عنه بعدها.. فعاد ليكتب فى «روز اليوسف» بعد أن تم تأميمها، وتولى بعد ذلك رئاسة تحرير «صباح الخير»، وانضم وقتها إلى التنظيم الطليعى، وكان له فى تلك الفترة نفوذ كبير. والسعدنى معروف أنه أيد ثورة 23 يوليو، وعمل بعد الثورة فى جريدة «الجمهورية»، التى أصدرها مجلس قيادة الثورة، وكان رئيس مجلس إدارتها أنور السادات، ورئيس تحريرها كامل الشناوى، وبعد تولى السادات منصب رئاسة البرلمان تم الاستغناء عن خدمات السعدنى أسوة بعديد من زملائه، وكان منهم بيرم التونسى، وعبد الرحمن الخميسى، وتم سجن السعدنى أيضا فى بداية عهد السادات فى قضية مراكز القوى، عقب المحاكمات الشهيرة لعلى صبرى، وشعراوى جمعة، ومحمد فائق، وسامى شرف.. ثم تم الإفراج عن السعدنى وصدر قرار بفصله من «صباح الخير» ومنعه من الكتابة، بل وتم منع ظهور اسمه فى أى مطبوعة مصرية، وبعدها غادر السعدنى مصر، وتنقل بين دول الخليج واستضافه صدام حسين إلى أن استقر به الحال فى لندن، لكنه عاد من منفاه فى بدايات حكم الرئيس مبارك، الذى استقبله ليطوى صفحة طويلة من الصراع مع النظام، والسعدنى تحدث عن نفسه فى مذكراته من خلال كتبه وعن سيرته الذاتية وكتبها فى نهاية الستينيات، وحتى منتصف التسعينيات، وحملت عناوين «الولد الشقى» عن طفولته وصباه وقصة بداياته الصحفية وصور متنوعة عن شخصيات عرفها وعاشرها فى السجن، وقصة منفاه ومن كتبه خفيفة الدم «مسافر على الرصيف» و«ملاعيب الولد الشقى» و«السعلوكى فى بلاد الأفريكى» و«الموكوس فى بلاد الفلوس» و«وداعًا للطواجن» و«رحلات ابن عطوطة» و«أمريكا يا ويكا» و«مصر من تانى» و«عزبة بنايوتى» و«قهوة كتكوت» و«تمام يا أفندم» و«المضحكون» و«حمار من الشرق» و«عودة الحمار» و«بالطول والعرض»، وهى رحلة إلى بلاد الخواجات.. والسعدنى، لمن لا يعرف، فى الأصل منوفى من قرية كفر القرنين، مركز الباجور، لكنه ولد وتربى فى حوارى وشوارع الجيزة! والسعدنى كان يقدر أم أولاده وكان يناديها «يا ستى يا أم أكرم» أو «يا حاجة مكارم» أو «يا ست الكل»، وكان لا يطيق أى ألم أو مكروه تتعرض له ولو كان وجعًا خفيفًا أو طفيفًا كنزلة البرد، وحنوه على أولاده وأحفاده كان بلا حدود، وطالما كان يلاطفهم ويداعبهم وبعشق وحنان بالغين.. فما أحلى أوقاته وهو بين أفراد عائلته الصغيرة.. والسعدنى لن يتكرر مرة أخرى فى بلاط صاحبة الجلالة الصحافة.. تمامًا كما لن يتكرر العمالقة فى عالم الأدب والثقافة والشعر والفن.. بالله عليكم هل هناك هيكل آخر أو عباس محمود العقاد أو توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ أو كامل الشناوى أو أحمد بهاء الدين أو التوأم على ومصطفى أمين أو أمير الشعراء أحمد شوقى أو شاعر النيل حافظ إبراهيم أو صلاح عبد الصبور أو عبد الرحمن الأبنودى، وغيرهم كثيرون ولا حصر لهم! هؤلاء عمالقة أنبتتهم طينة الأرض المصرية الضاربة فى جذور العراقة والأصالة والمنتمين فكرا وعشقا ووجدانا إلى أمنا العظيمة مصر، التى تشعر الآن بالقهر! والسعدنى كان الإنسان المصرى البسيط.. وكان لا يحب التنطيط ويحب التنكيت من خلال ما أفاض به قلمه الساخر، وكان يكتب بلا خوف أو رهبة وبشفافية ومصداقية، فحاز على التقدير والإعجاب حتى ولو كان القراء والمعجبون من خارج البلاد.. وصداقاته وعلاقاته كانت لا حصر لها ما بين الرؤساء والملوك والأمراء، ولو كانت الصداقة والمحبة للفقراء والمهمشين.. وصداقاته جمعت بين الشامى والمغربى، فصادق الكبار والصغار على حد سواء، وما أحلى محبته لصديق عمره الحاج إبراهيم نافع، صاحب الجلباب الشهير، والفنان الرسام طوغان، الذى كان يلعب معه الكرة الشراب، وكان الاثنان يقذفان الإنجليز بالطوب فى فترة الثلاثينيات والأربعينيات، وكانا يطلقان ساقيهما للريح، ويقولان يا فكيك، وجلسات السعدنى كانت أكثر من رائعة وتضم المشاهير من نجوم السياسة والأدب والفن ولاعبى الكرة من المشاهير وأصحاب المقامات والهامات.. حيث كان يحب اللمة، وفى عزوماته يقول لك بسم الله ومن حسن حظى أننى عاشرته وعايشته وارتبطت به وكان نعم الأستاذ والوالد والأب الكريم، وإذا أحبك السعدنى أصبحت على الفور فى القبيلة والأسرة السعدنية، وكان لماحًا وذكيًّا، ويعرف مقدمًا ماذا تريد أن تبوح به، وبمجرد أن يتفحصك ويرمقك كان اللطيف والظريف والأديب الأدباتى.. يستفسر عن الحال والأحوال حتى لو كان الأمر يتعلق بالأولاد والخلان، ودائما ما كان يسجل وببراعة أجوال الحقائق سواء فى مقالاته أو أعمدته الصحفية أو فى صفحته الأخيرة بمجلة «المصور» على باب الله.. أو مقالته فى «أخبار اليوم» «أما بعد». وحياة السعدنى كانت «حبة فوق وحبة تحت»، ويوم فى العالى وأيام فى النازل.. كان يقابل الأحوال بسخرية لاذعة أو نكتة تلقائية موجعة، لكنها باسمة وضاحكة، وعلى الرغم من ذلك تجده سعيدا ومبتهجا، وليس حاقدا أو ناقما أو متألما! وقد لا يعرف القارئ أن السعدنى كان له دور كبير فى عودة «مصر» إلى الحضن العربى بعد القطيعة التى تعرضت لها عقب توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس.. وعقب وفاة السادات بادر بالاتصال بأصدقائه وأحبائه من الرؤساء والملوك والأمراء، وطالما تحدث مع صديقه صدام حسين وأصدقائه من حكام الخليج بل كان صديقه عبد العزيز التويجرى السعودى هو همزة الوصل بينه وبين الملك عبد الله الآن، وكان يجل ويحترم ويقدر حكيم العرب الشيخ زايد آل نهيان، وكان أصعب المشاهد التى أبكته يوم شاهد تنفيذ حكم الإعدام على صدام حسين، فبكى وسالت دموعه لأن صدام أكرم وفادته فى العراق، وطالما سهرا كثيرا فى حى الدقى.. عموما فى جلسات السعدنى كنت تجد المشاهير وكانت صداقته بالدكتور كمال الجنزورى حميمة، ويسعد عندما يأتى له فى نادى الصحفيين بشارع البحر الأعظم، ويستقبله «هاشًا.. باشًا» وعندما كان السعدنى يدعو أى أحد كانت لا ترد دعوته، ويحضر المدعو متهللا وسعيدا، وكانت أمسيات السهر تمتد حتى مطلع الفجر وتعقبها وليمة السعدنى، وبها ما لذ وطاب.. كنت ترى مصر فى جلساته بأطيافها وأحوالها حتى القفشات والنكات لا خجل من ترديدها، فتسمع الضحكات والقهقهات النابعة من القلب والوجدان.. وكان وفاؤه بلا حدود لأصدقائه ومن زاملوه فى السجن والحبس، وكان الحديث عنهم له شجون، ولكن ماذا أقول، لأن الحديث عن السعدنى يمتد ويطول ويحتاج إلى عديد من السرد والحكاوى. رحم الله السعدنى خفيف الدم والساخر الجميل، الذى حبانا به الزمن الجميل فسعدنا بكتاباته وحواديته وذكرياته وقفشاته، وما أطرف ما كان يقص علينا من نوادر مقابلاته، وكان يتقمص شخصية من يتحدث عنه فى بثرة كلامه أو حركاته أو نحنحته أو حتى تنهداته، فكان حديثه يتسم بالصدق، فإذا تحدث لا تقدر أن توقفه أو تمنعه من الكلام، لأنه كان يمتلك ناصية الحديث.. والسعدنى كان محبًا للحياة بحلوها ومرها، وكان يسير فى خطاه «على باب الله» وهو الآن فى ظل رحمة مولاه.