أعلن سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف (مدير هيئة الأمن الفيدرالي سابقا) أن التهديدات المتعلقة بالنشاط العسكري لحلف الناتو يزداد خطرها على موسكو، بينما تحاول واشنطن فرض قيود على استقلالية السياسة الروسية. جاء هذا التصريح في مقابلة أجرتها صحيفة "روسيسكايا جازيتا" الحكومية الروسية مع نيكولاي باتروشيف ليظهر الطرف الآخر من المعادلة إلى الواقع السياسي الدولي. فحلف الناتو أعلن أكثر من مرة أن روسيا في السنوات الأخيرة أصبحت تشكل خطرا على أمن دول الحلف، مقدما إياها على خطر الإرهاب. وهو الأمر الذي أكده العديد من المسؤولين العسكريين والسياسيين الأمريكيين في تصريحات عديدة خلال عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥، وبالذات بعد تفاقم الأزمة الأوكرانية، وقيام كل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية ضد روسيا. إن اتهامات الناتو وواشنطنلروسيا بأنها تتقدم على الإرهاب من حيث الخطر بالنسبة لهما، أثارت انزعاج موسكو كثيرا وجعلتها توجه اتهامات عديدة إلى كل من الحلف والولاياتالمتحدة، ولكنها لم تجرؤ على وضع الناتو أو واشنطن في مقدمة المخاطر والتهديدات عليها، ربما أملا في أن تتراجع أوروبا والولاياتالمتحدة عن العقوبات. ولكن قبل انتهاء العام الحالي بأيام قليلة، أعلن سكرتير مجلس الأمن القومي القومي الروسي نيكولاي باتروشيف أن "الخطر الذي تشكله التهديدات المرتبطة بنشاط الناتو العسكري يتزايد، وتتعرض هيكلة الأمن العالمي للاجتراف بسبب سعي الحلف إلى رفع قدرته الهجومية وتحديثها، وكذلك تشكيل أنواع جديدة للأسلحة ونشر منظومة الدرع الصاروخي العالمية، بما في ذلك حول حدود روسيا". من الواضح أن موسكو فقدت الأمل بنسبة كبيرة في ما يتعلق بمسألة رفع العقوبات الغربية. فالاتحاد الأوروبي مدد عقوباته إلى نهاية يونيو ٢٠١٦، وحذت الولاياتالمتحدة حذوه، لتظل روسيا قيد عقوبات قابلة للتوسيع في أي لحظة. وهو الأمر الذي يفاقم من الأزمة الأوكرانية من جهة، ويدفع بروسيا إلى مواقف أكثر تشددا حيال أوكرانيا. سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي قال إن "تصريحات زعماء بعض دول الغرب عن كون الناتو حلفا دفاعيا من شأنه ضمان الأمن في العالم، وراء جوهرها الخفي تظهر عدوانية الحلف". كما أشار إلى "أن الولاياتالمتحدة تعتزم، ومن ورائها عدد من الدول الغربية، الحفاظ على فرض إرادتها في حل القضايا الدولية، ولذلك فإن هناك محاولات لتقييد سياسة روسيا الخارجية والداخلية المستقلة". بعد ذلك تطرق باتروشيف، في سياق حديثه عن التعديلات الجديدة في استراتيجية روسيا للأمن القومي، إلى موضوع التطرف والإرهاب، مشيرا إلى أن التعديلات في الاستراتيجية تنص على طرق وأساليب التصدي للفكر المتطرف والدعاية له في وسائل الإعلام، كما تحتوي على أهداف استراتيجية لحماية روسيا من محاولات استخدام القوة العسكرية ضدها. بهذا الشكل ردت موسكو نظريا على واشنطن والناتو. ولكنها وضعت، عمليا، شروطا غريبة لهذا الرد. إذ أكد باتروشيف على أن "نهج السياسة الخارجية الروسية يستبعد المواجهة المكلفة من أجل حماية مصالحها، بما في ذلك سباق تسلح جديد. كما تنظر روسيا إلى استخدام القوة العسكرية كملاذ أخير، بعد استنفاذ الوسائل السياسية والاقتصادية والدبلوماسية وغيرها". غير أن اللافت هنا أن المسؤول الأمني الروسي الكبير، استخدم تعبيرات خطيرة أقرب إلى التحذيرات أو التهديدات. فقد ذكَّر الولاياتالمتحدة والناتو بأن روسيا تبنت استراتيجية الأمن القومي عام ٢٠٠٩، الأمر الذي أثبت فعاليته منذ ذلك الحين، حيث "أظهرت روسيا قدرتها لحماية سيادتها واستقلال ووحدة أراضيها، كما ارتفع دورها في حل أهم القضايا العالمية وتسوية النزاعات والأزمات بين دول". التعبير الأخير يتضمن إشارات قوية على دور روسيا في الملف النووي الإيراني بتحويله من ملف صدام عسكري إلى ملف سياسي – دبلوماسي من جهة، والتدخل العسكري في سوريا من جهة أخرى. ولكن هل يمكن أن تكون مثل هذه التحذيرات أو التهديدات الروسية مجدية في الأزمة الأوكرانية التي قد تقلب موازين القوى في أوروبا والعالم؟! هذا السؤال يتكرر كثيرا في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد أن تدهورت العلاقات بين روسياوتركيا ووصلت إلى شكل من أشكال المواجهة، وإن لم تكن مواجهة عسكرية بعد. ولكنها في كل الأحوال ستصل إلى أنواع من المواجهات أخطر بكثير من المواجهات العسكرية. والمعروف أن تركيا هي شريكة تاريخية لروسيا في البحر الأسود الذي يضم قاعدة أسطول البحر الأسود الروسي في ميناء سيفاستوبل، وكذلك شبه جزيرة القرم أحد أهم أسباب الأزمة بين روسيا والغرب. وبطبيعة الحال، فالملف الأوكراني حاضر بقوة في العلاقات الروسية التركية، ولكن يبدو أن أنقرة تؤجل استخدامه إلى الوقت المناسب. بالعودة إلى إعلان روسيا وضع المخاطر والتهديدات الناجمة عن نشاطات حلف الناتو الذي تقوده عمليا الولاياتالمتحدة في مقدمة الأخطار على أمنها القومي، ثم الحديث عن التطرف والإرهاب، تصبح المعادلة الجيوسياسية والجيوأمنية في العالم شبه متزنة. ولكنها في كل الأحوال محكومة بشروط موضوعية وأدوات وأوراق وعوامل، منها الاقتصادي ومنها التقني، وبالضرورة ورقة الطاقة وطرق نقل الغاز. إن موسكو تستبعد، في الشكل الجديد لاستراتيجية أمنها القومي، سباق التسلح وتعتبر القوة العسكرية طريقة يمكن استعمالها كحد أقصى. ولكنها من جهة أخرى، تبعث برسائل مرنة للغاية بأنها "مهتمة بالتعاون مع الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية ولكن على أساس المساواة". هذا الأمر يحتاج إلى عقل جبار لكي يفهم كل التناقضات التي تنطوي عليها هذه الرسائل من جهة، ومحاولة التأكيد ولو حتى نظريا على أن روسيا قادرة على مواجهة الولاياتالمتحدة وحلف الناتو معا. أم هل المقصود بكل ذلك رسالة أخرى تماما تقول إن "روسيا قد تستخدم كل ما لديها من أسلحة في حال تم حصارها تماما ووضعها في زاوية ضيقة"؟! هذا الأمر في غاية الخطورة، وخاصة في ظل تمديد وتوسيع العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا ومحاولة خنقها. بل ويعتبر أخطر بكثير من ما نتصور إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الآثار السلبية لهذا الحصار الاقتصادي، وإمكانية عسكرة البحر الأسود، وضم عدد من دول أوروبا وآسيا الوسطى وما وراء القوقاز إلى حلف الناتو. اللافت هنا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان قد أدلى بتصريح خطير في ١٩ ديسمبر الحالي (وهو يوم الاحتفال بعيد الأجهزة الأمنية في روسيا)، حيث قال "إننا لم نستنفذ كل ما لدينا من إمكانيات، فما زلنا بعيدين عن استخدام كل ما يتوفر لنا. لكن لدينا وسائل إضافية وسوف نستخدمها هي أيضا إذا لزم الأمر". وقد كان يقصد بهذا التصريح العمليات العسكرية الروسية في سوريا. ولكن هل يمكن أن ينطبق ذلك على أوكرانيا، مثلا، علما بأن الأزمة الحقيقية بالنسبة لروسيا ليست في سوريا، وإنما في أوكرانيا على وجه التحديد. وكل ما يجري في سوريا وحولها يكاد يكون مرتبطا بما يجري، وسيجري في أوكرانيا؟!