المدافعون عن الشرطة لديهم الكثير من التبريرات لتجاوزاتها. أهمها أنها أخطاء فردية تحدث فى كل المهن كالطب والهندسة، ولا يصح إدانة مؤسسة بأكملها بسببها. مثلما لا يصح إدانة جموع الأطباء والمهندسين لأخطاء يرتكبها بعضهم. لكنهم يغفلون، دون قصد كما أتمنى، أن الأخطاء فى تلك المهن الأخرى عادة ما يتسبب فيها الجهل، أو الإهمال، أو الجشع. بينما أخطاء الشرطة لا يمكن تبريرها بتلك العوامل. فالشرطى لا يرتكب جريمة التعذيب لجهله بالقانون، ولا يوقع الأذى بالمتهم نتيجة لإهماله، بل يلحقه به متعمدًا. كما أن الجشع لا يدفعه للعنف للحصول على غنيمة مادية، فغالبًا ما يكون الدافع الرئيسى لتعذيب المتهم هو انتزاع اعترافه بالقيام بجريمة ربما لم يرتكبها. أى أن نقص المهنية والاحترافية فى ممارسة التقصى والتحرى، واستسهال إيقاع العقوبات البدنية بالمتهمين فى ظل انعدام الرقابة، والاطمئنان إلى غياب المحاسبة اللاحقة، إلا فى أضيق الحدود، كلها أسباب حينما تجتمع تؤدى إلى إظهار النوازع السادية الكامنة فى النفس البشرية، وتمثل أخطاء جسيمة فى منظومة العمل تضع تلك الممارسات فى إطار العنف الممنهج عندما يتسع نطاقها. لن أتطرق هنا للتفسير السياسى لظاهرة العنف الشرطى، رغم أهميته، والذى يرتبط عادة لدى المثقفين والنشطاء الحقوقيين بوجود مصلحة مباشرة لأى نظام ديكتاتورى فى صناعة آلة قمعية يحميها من أجل حمايته، ويجعلها آمنة من العقاب لتساعده على ترويض الطبقات الأشد فقرًا، حتى يكسر إرادتها ويجعلها تصبر مرغمة على واقعها السيئ، ولا تتمرد عليه، فتمشى داخل الحائط لكى تأمن بطش السلطة. لكنى سألفت النظر فقط إلى أن رد الفعل الوحيد المقبول من السلطة لدحض تلك الرؤية ونفيها، عندما تزداد حالات التعذيب، لا يجب أن يقتصر فقط على كلمات طيبة تطمئن بها الشعب، يعلنها مسؤول مهما علت قامته، بقدر ما يجب أن يرى الناس بأعينهم الاهتمام بتوفير وتطبيق أقصى معايير الرقابة والشفافية والعقاب الرادع لضمان التزام رجل الشرطة بالمهنية واحترام الواجبات التى يُلزمه بها الدستور. وهذا ما لم يره الناس بجدية حتى هذه اللحظة، ولعلى لا أكون مبالغًا حين أقول إن هذا حلم تقاعست عن تحقيقه غالبية الأنظمة فى تاريخنا القديم والحديث، ولكنه ليس عذرًا لسلطة تعلن أنها تحكم بإرادة شعبية بعد ثورتين اندلعت أولاهما لتحقيق الكرامة الإنسانية التى أهدرتها الشرطة فى قضية الشهيد خالد سعيد. هذه الضمانات يجب أن يقدمها أى نظام يحترم مواطنيه ليوفر لهم حماية ترفع عنه تهمة تغاضيه عن الجرائم التى ترتكبها شرطته. هذا إن كان يزعجه تفسير ممارساتها الوحشية بأنها تهدف إلى بقائه فى الحكم بزراعة الخوف فى النفوس. هناك خطوات معروفة للإصلاح يطرحها الخبراء، ويمكن أن يبدأ فى اتخاذها أى نظام يسعى بجدية للوصول إلى شرطة مهنية راقية تقوم بدورها بكفاءة وتتقلص تجاوزاتها إلى أضيق الحدود. ليس منها بالطبع ما قرره وزير الداخلية اللواء مجدى عبد الغفار بتكليف الأمن الوطنى، (أمن الدولة سابقًا)، برفع التقارير عن تجاوزات ضباط الأمن الجنائى بحق المواطنين. كأنه يجهل أن الأمن الوطنى ليس جهازًا رقابيًّا، وليس محايدًا، وتجاوزاته تحتاج هى الأخرى إلى من يكتب عنها التقارير! المدهش حقًّا هو تصريحه المنشور فى عدد الثلاثاء أول ديسمبر من جريدة "الأهرام" الحكومية حيث قال نصًّا: "إن عدد ضباط وزارته ستة وثلاثون ألفًا، يساعدهم ثلاثمائة ألف فرد شرطة، وإن التجاوزات لا تمثل أكثر من عشرة بالمائة"! انتهت كلماته وعلامة التعجب من عندى. فهل كان يقصد عشرة بالمائة من إجمالى محاضر الاتهام التى تنظرها الشرطة؟! أم كان يقصد أن عشرة بالمائة من إجمالى قوة الشرطة تمارس التجاوزات بحق المواطنين؟! إن تصريحًا كهذا لوزير الداخلية يجعلنا نشعر بالرعب حتى إذا تغاضينا عن حقيقة أن المسؤول دائمًا ما يدلى فى حالات كتلك بنسب مئوية أقل من الواقع. فحدوث تجاوزات فى عشرة بالمائة من إجمالى قضايا الاتهام يمثل رقمًا مخيفًا يجعلها جرائم ممنهجة. أما فى حالة الاعتراف بوجود عشرة بالمائة من قوة الشرطة يمارسون التجاوزات، فهذا يكاد ينزع عن الداخلية صفة الحماية عندما تنثر فى زوايا المجتمع ثلاثة آلاف وستمائة ضابط متجاوز مسلح، وثلاثين ألفًا من الأفراد المتجاوزين المسلحين! وهو الأمر الذى يجعل توصيف جرائمهم بأنها تجاوزات فردية نوعًا من الاستهانة. وإليكم رابط الخبر حتى لا يتهمنا أحد بالادعاء على الرجل. http://www.ahram.org.eg/NewsQ/457199.aspx فى صيف عام 1971 قام البروفيسور زيمباردو، المحاضر فى قسم الدراسات النفسية بجامعة ستانفورد الأمريكية بإجراء تجربة عن التغيرات السلوكية التى تحدث لطلاب عاديين عندما يتم تقسيمهم عشوائيًّا إلى سجانين وسجناء. تلك التجربة دارت حولها مناقشات وتحليلات تمخضت عن نتائج كان من أهمها أن امتلاك سلطة رجل شرطة على وجه التحديد تمنح صاحبها شعورًا بالتفوق، يُظهر أسوأ ما فى النفس البشرية من ميول سادية، ورغبة فى ممارسة قهر الآخر، وإذلاله لمحو شخصيته. حتى عندما يحوزها مؤقتًا أناس عاديون كطلاب جامعيين، يتم اختيار بعضهم عشوائيًّا ليقوم بدور السجان الذى يملك حق تكدير وعقاب زملاء له لا توجد بينه وبينهم خصومة سابقة. فقط اكتب Stanford prison experiment على أى محرك بحث ستظهر لك نتائج متعددة يمكنك الاختيار من بينها. أو ابحث بالعربية عن مصدر مترجم يتناول تلك التجربة. أما إذا كان بمقدورك متابعة الإنجليزية المسموعة، وكنت ممن يصيبهم الملل من قراءة الأبحاث السلوكية، التى عادة ما يتم كتابتها للمتخصصين، فيمكنك مشاهدة البروفيسور زيمباردو على "يوتيوب" والاستماع إلى ملاحظاته حول تلك التجربة، فلربما يساعدك حديثه على فهم ضرورة التصدى بالرقابة المشددة وبالعقاب الصارم لمنع ظاهرة التعامل مع المواطنين بعنف يصل إلى القتل فى أقسام الشرطة فى بلادنا. فخلال الشهر الماضى فقط تم رصد ثلاث وستين حالة تعذيب أسفرت عن ثمانية قتلى فى محافظات مختلفة طبقًا لتقرير شبكة "رصد" الإخبارية. فضلاً عن توثيق اثنتين وعشرين حالة قتل خلال الثلاثة أشهر الماضية!
تجربة ستانفورد أجريت على طلاب عاديين تم اختيارهم عشوائيًّا، ووضعهم تحت رقابة باحث متخصص، وتحت عيون كاميرات تسجل سلوكهم لحظة بلحظة، ولكنها أخرجت النوازع السادية الكامنة فى نفوسهم. رغم عدم تزويدهم بأكثر من يونيفورم ونظارات سوداء. فما بالك برجال يمارسون مهنتهم باختيارهم، ويتزودون باليونيفورم والسلاح فى غياب تام لرقابة محايدة؟ وفى حماية مؤسسة تغمض عنهم عيونها، ولا تحيل تجاوزاتهم للقضاء إلا فيما قل وندر، وتعتمد كما رأينا فى قضايا متعددة على فكرة تستيف الأوراق، وإخفاء الأدلة عملاً بنظرية الورق ورقنا. كما تطرمخ على كثير من حالات القتل والجرائم الكبرى بنقل مرتكبيها إلى أقسام أخرى، أو وظائف إدارية داخل الجهاز! يحدث هذا رغم تصريحات وتعهدات القائمين على أمورهم، وأمورنا، إثر كل حادث بكلمات فضفاضة حول توقيع العقوبات الصارمة على المتجاوزين. عندما يستهين وزير الداخلية بحالات التعذيب التى تصل إلى عشرة بالمائة باعترافه، ويصفها بأنها حالات فردية، فافهم أن المشكلة تعقدت إلى درجة كبيرة يمكنها أن تجعل البروفيسور زيمباردو شخصيًّا يسرح بعربة بطاطا فى أروقة جامعة ستانفورد!