ضرب وركلات قد ينالها أحدهم لمجرد اشتباه فى سرقة أو حادث سيارة، أنماط من ما يمكن تسميته «بالتعذيب الشعبى» الذى يمارس البعض من خلاله سلطاته على الآخرين ولو بمحض الصدفة. لم تتمكن المهندسة المعمارية رشا أسامة من الدخول بسهولة إلى بيتها فى منطقة الهرم ذلك المساء، فقد وجدت حشدا كبيرا متحمسا يتفرج على شىء ما فى مدخل العمارة. وبصعوبة بالغة تمكنت من مناداة البواب الذى كان من الحشد فأفسح لها طريقا لتمر إلى السلم. وفى طريقها بدأت تدرك سبب ذلك التجمع الهائل: شاب فى حالة رثة ملقى على الأرض وحوله مجموعة كبيرة من الناس ينهالون عليه بالسباب والضرب، أحدهم يقوم بدور قيادى ويتولى التحقيق مع الشاب ممسكا بحزام جلدى ينهال به عليه بين الحين والآخر وهو يطالبه بالاعتراف. علمت فيما بعد أن جريمة سرقة حدثت لأحد سكان العمارة وأنهم اشتبهوا فى علاقة هذا الشاب بالجريمة، ف«ألقوا القبض عليه» و«تولوا التحقيق معه»، ولكن فى النهاية لم يتمكنوا من إجباره على الاعتراف ف«أطلقوا سراحه». «الجماهير»، التى تقمصت دور الشرطة لم تكتف بذلك، بل تجاوزت إلى استخدام قدر من «التعذيب» فى التعامل مع المتهم المفترض. وهو التجاوز الذى تتهم تقارير حقوقية متعددة ضباط الشرطة بارتكابه، بل واعتماده كسياسة منهجية فى الأقسام والسجون. وأدين عدد منهم بالفعل، وأشهرهم الضابط إسلام نبيه المحكوم عليه بالسجن 3 سنوات لتعذيبه عماد الكبير الذى أصبح اسمه عنوان قضية شغلت الرأى العام لفترة. ولكن هل هذا «الرأى العام» يقف بشكل مبدئى ضد التعذيب أم أن الكثيرين منا لن يترددوا عن استخدامه عندما يجدون أنفسهم فى مكان ضابط الشرطة ويودون إجبار شخص آخر على الإدلاء بمعلومات أو يريدون عقابه بعيدا عن القانون؟ لا وجود لإجابة قاطعة، فالروايات المتعددة حول «التعذيب الشعبى» تعكس اختلافا فى الرأى حوله. رشا أسامة مثلا لم يعجبها ما حدث، بينما الحشد المكون من أهل الشارع كان يرى الأمر طبيعيا ويجب المشاركة فيه. قبل عام، اتهم خفير فى فيلا بالشروق الطيار صاحب الفيللا وزوجته وشقيقته باحتجازه وتعذيبه، بل واستئجار رجل لانتهاكه جنسيا وتصوير ذلك وإجباره على التوقيع على إيصالات أمانة عقابا له على إعطاء رقم تليفون زوجة الطيار لرجلين مجهولين قاما بمعاكستها تليفونيا. سجلت التحقيقات اعترافاتهم بذلك، ولكنهم أنكروها فى المحاكمة. وفى الشهر الماضى، تم اتهام تاجر من قرية «وردان» التابعة لمركز إمبابة باحتجاز أحد عماله وتعذيبه لأنه شك فى اختلاسه مبلغا ماليا، وقد قال التاجر فى التحقيقات إن أمين شرطة هو الذى نصحه بذلك لأن الطريق القانونى لن يعيد إليه أمواله. يقول مصطفى حسين، الطبيب النفسى الذى يعمل ضمن فريق مركز النديم لإعادة تأهيل ضحايا العنف: «عدم ثقة المواطنين فى فاعلية القانون والقضاء فى إعادة حقوقهم ربما يكون سببا فى هذه الحالات. ولكن هذه الحالات لا تصل للمنظمات الحقوقية، ولايزال التعريف الرسمى للتعذيب الذى تعمل على مناهضته ومعالجة آثاره هو الفعل الذى يأتى من جهة رسمية أو ذات سلطة». ثم يضيف الدكتور مصطفى حسين إن بعض الحالات التى يقوم بالتعذيب فيها مواطنون عاديون يكونون أحيانا أصحاب سلطة بشكل ما على من يتم تعذيبه. يمكن تقسيم حالات «التعذيب الشعبى» إن أمكن أن نسميه كذلك إلى نوعين: نوع يكون فيه المتهم بارتكاب التعذيب فى موقع يمكن اعتباره «سلطة ما» أو «وضع اجتماعى أعلى» من الضحية، مثل الطيار مع خفير الفيللا والتاجر مع أحد عماله. والنوع الآخر هو النوع الذى يتقمص فيه الناس دور أفراد الشرطة تطوعا ل«تأديب» متهم ما شكوا فيه أو ينفجر غضبهم تجاهه بعد ضبطه متلبسا. والنوع الأخير هو ما يعبر عنه المثل الشعبى واصفا العلقة الساخنة بأنها «ما أخدهاش حرامى فى مولد». المثل يمكن أن يكون صورة معبرة عن هذا النوع وما يحيطه من ملابسات. فالمولد عبارة عن حالة استثنائية من الفوضى يغيب فيها النظام، وبالتالى القانون بشكل كبير. تنتشر السرقات نتيجة لذلك، وبالتالى فإن رد الفعل على نفس القدر من الفوضى. ينفجر الناس وينتقمون من من يتم «الحكم عليه» فى لحظة ما بأنه لص متذكرين كل الجرائم التى حدثت لهم سابقا أو سمعوا عنها. وفى الغالب فإنهم يتركون «اللص» دون تسليمه إلى الشرطة، ويعتقدون أن ما حدث هو عقاب مناسب. ضرب للمجاملة عبدالهادى سلامة، صاحب متجر للمحمول فى بولاق الدكرور، يظن أن هذا الوضع هو الأفضل للناس وللصوص معا: «الحكومة ليس لديها وقتا للتحقيق فى سرقة موبايل أو ألف جنيه، والناس بتخلص حقها بدراعها. وكمان الحرامى ممكن يكون شاب غلط لأول مرة، حرام يتبهدل وتبقى سابقة ويدخل السجن ويبقى مجرم رسمى. كفاية عليه علقة تربية ويتعلم الأدب». يضيف عبدالهادى أنه تعاطف مع عماد الكبير فى قضية تعذيبه ولكنه أيضا يعتقد أن ضابط الشرطة «معذور» لأنه يواجه قضايا كثيرة ويتعامل أحيانا مع «أشكال واطية» لا ينفع معها الأدب أو القانون أو حقوق الإنسان و«كل الكلام الحلو ده» على حد تعبيره. وجهة نظر عبدالهادى سلامة هى إحدى الزوايا التى تفسر جانبا من الظاهرة التى تجمع معا تبرير القيام بفعل التعذيب أو قبول وقوعه لآخرين من قبل بعض ضباط الشرطة. وهذا القبول له علاقة أيضا بما تشير إليه تقارير حقوقية من أن بعض حوادث التعذيب المتهم فيها ضباط شرطة تمت كشكل من أشكال «المجاملة» لأصدقاء أو أقارب أو أصحاب نفوذ. يروى المهندس محمد عبدالقادر، وهو شديد الأسف، أنه استعان مرة بأحد ضباط الشرطة من معارفه لردع «مسجل خطر» كان يهدد أسرته. كان رأى الضابط أن التعامل الرسمى لن يفيد، وقام هو بما يظنه أصلح وأمر بتعذيب المواطن المسجل خطر فى شارعهم وبأساليب «جنسية» مهينة ليضمن ألا يقترب من هذا الشارع مرة أخرى. يقول محمد عبدالقادر: «لم أكن معترضا ساعتها ولكنى الآن مستاء جدا من هذه الطريقة العنيفة». ما يرويه هذا الأخير يؤكد جانبا من الظاهرة ولكن ندمه وأسفه يؤكدان أن هناك حالة من عدم الحسم فى وجهة نظر بعض المصريين تجاه أشكال العنف ومن بينها التعذيب. يوضح مصطفى حسين، الطبيب النفسى: «تصاعد العنف فى المجتمع المصرى فى الفترة الأخيرة فى مجالات متعددة منها العنف داخل الأسرة أو فى المدراس قد يغرى الكثيرين بالتسرع واتهام المجتمع المصرى بقبول فكرة التعذيب رغم أنه لا توجد دراسات كافية أو مؤشرات علمية بهذا الصدد». ولكن مصطفى حسين قام بتجربة مصغرة ومحدودة، فأعد استفتاء صغيرا أجاب عليه أكثر من ثلاثين من أصدقائه حول قبولهم لتصرف ضابط قام بتعذيب متهم فى قضية مقتل طفلين، بحرمانه من الطعام لمدة 48 ساعة وضربه بعصا على مؤخرته حتى يعترف. وضع الطبيب تخيلين لحالة المتهم: الأولى أنه شخص تمت إدانته سابقا باغتصاب سيدة والآخر هو أنه شخص يدخل للمرة الأولى قسم شرطة. وكان غرضه قياس اختلاف الموقف من التعذيب تبعا لنظرتنا للمتهم. ولكن النتائج لم تحمل فرقا يذكر بين موقف من أجابوا تجاه الحالتين، والمفاجأة أن أكثر من ثلث العينة أيدت استخدام التعذيب فى الحالتين. وأبدى الدكتور مصطفى حسين اندهاشه وهو ينشر نتائج الاستفتاء على موقعه الشخصى من أن يكون ذلك رأى أشخاص مقربين منه ومعظمهم من الأطباء النفسيين. لذة الانتقام تجارب أخرى وعلى نطاق أوسع انتهت إلى أن أفراد عاديين من مجتمعات أخرى يمكنهم أن يقبلوا التعذيب بل ويشاركوا فيه إن أمرتهم سلطة ما بذلك أو تقمصوا هم أنفسهم دور السلطة. ففى ستينات القرن الماضى قام عالم النفس د. ستانلى ملغرام بإجراء تجربة فى جامعة ييل فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، أجريت الدراسة على عدد من المواطنين الذين استجابوا لأوامر المشرفين على التجربة التى قيل لهم أنها تقيس دور العقاب فى التعلم وقاموا بالضغط على أزرار قيل لهم إنها تسبب صعقات كهربية متفاوتة الشدة لشخص يجلس فى غرفة مجاورة إن أخطأ فى الإجابة عن أسئلة معينة. ورغم صراخ الممثل الذى يؤدى دور الشخص الذى يتم تعذيبه وتوسلاته فإن 65% من المشاركين استمروا فى الضغط وطاعة الأوامر حتى أقصى شحنة كهربية متاحة. نسبة قليلة من الناس هى التى أبدت بعض الاعتراض إلا أن مشاركا واحدا لم ينسحب فعليا! تجربة أخرى أجريت فى العام 1971 تحت اسم «تجربة سجن ستانفورد»، أجراها عالم النفس فيليب زيمباردو فى جامعة ستانفورد، الذى قسم مجموعة من المواطنين العاديين إلى سجانين ومسجونين ثم نقلهم إلى مكان يحاكى السجن تماما. التجربة التى خرجت عن السيطرة وجرى إيقافها قبل نهايتها شهدت تقمص كلا الطرفين لدوره تماما، وقام السجانون بمعاقبة المسجونين بقسوة، فمنعوا عنهم الطعام وأجبروهم على النوم عراة على البلاط فى الشتاء وتنظيف المراحيض بأيديهم المجردة. وقال المشرفون إن واحدا من كل ثلاثة سجانين أظهر ميولا سادية حقيقية، ومعظمهم شعر بالحزن لإيقاف التجربة! هناك خلاف بين اتجاهات علم النفس حول الرغبة فى العدوان، هل هى غريزة أصيلة فى الإنسان أم انحراف؟ ولكن بعيدا عن هذا الخلاف يبدو أن القاسم المشترك فى ظاهرة «التعذيب» بوجهيه هو الشعور بالسلطة من قبل شخص على آخر، سواء كانت سلطة رسمية أو نتيجة لمكانة اجتماعية أقوى أو حتى مجرد سلطة الجموع فى «المولد»، التى تتيح إدانة وعقاب «الحرامى». فالسلطة قد تحرك سلوكنا بشكل مختلف لنجد أنفسنا مكان الجلاد أو قريبا منه. فى النهاية كل جلاد هو ابن مجتمعه وليس شيطانا أو وحشا من كوكب آخر.