ربما يكون من أبرز سمات التجربة الإخوانية فى الحكم، أنها دفعت إلى السطح بعدد معروف من أولئك الرجال «المنفوخين فى السُّترة والبنطلون» على حد وصف الراحل العظيم صلاح جاهين، ذلك أنه أتحفنا برباعية شهيرة قال فيها: «وَلَدِى إليك بدل البالون ميت بالون/ انْفخ وطرقع فيه على كل لون/ عساك تشوف بعنيك مصير الرجال/ المنفوخين فى السُّترة والبنطلون». توهم البعض، بسبب الصعود الإخوانى السريع، أن قطار المستقبل المنطلق يرتدى العباءة والجلباب، فأخذوا يحجزون مقاعدهم، ومثل الفراشات الملونة الزاهية، انجذبوا إلى النور، فتحوّل فجأة إلى نار أحرقت كل تاريخهم، ضاعت الهيبة والمكانة، وأصبحنا أمام التجسيد الحى لرباعية جاهين، مضافًا إليها مقولة المفكر الفرنسى مونتسكيو الشهيرة «إذا أردت أن تعرف الإنسان على حقيقته.. فامنحه سُلطة». لم نكن نعرفهم على حقيقتهم، كانت النفخة كذابة، أدهشتنى أسماء، ولم تدهشنى أسماء أخرى، ولكن الجميع لم يحتاجوا، عند أول اختبار، إلا إلى دبوس صغير، لنسمع فرقعة مدوية مثل انفجار بالونة الأطفال، التى كانت هناك، ثم أصبحت فجأة أشلاءً لا تصلح لأى شىء، كان أسوأ من فضيحة التنكر للمبادئ، أنهم تصرفوا بالفعل مثل الأطفال، ألم تشاهد يومًا صغيرًا يبكى منزويًا خائفًا من العقاب، ويهتف بك: «ماليش دعوة.. همّا اللى قالوا لى»؟ ألم تجد طفلًا جبانًا ذات يوم يرمى بالمسؤولية على «الواد العبيط اللى كان بيلعب معاه»؟ ألم تستحضر فى ما مرّ بنا من مهازل وفضائح سياسية وقانونية ذلك «العيّل» الذى ضحكوا عليه، وأخذوا منه كل ما كان فى حصّالته من النقود؟ ألم تتذكر (بذمّتك) هذا الولد الذى ذهب لمشاهدة صندوق الدنيا، فتاه فى السكة، ولم يستطع العودة إلى البيت؟ إنما هى السلطة الزائفة أو القناع الخادع، فإما أنهم هُواة مقاعد ومناصب، وإما أنهم خدعوا الناس بشعارات لا يعتقدون بها، أو ربما كانوا يدافعون عن تيار لا عن مبدأ، فلما انقلب التيار على المبدأ، انقلبوا هم، أو لعلهم اعتقدوا أن مَن منحهم المنصب لن يبيعهم، ظنوا أنه سيدافع عنهم، نسوا أن «من له ثمن لا يمكن أبدًا أن يؤتمن»، وتناسوا مصير مبارك ورجاله فى القفص، لم يقرؤوا التاريخ ليعرفوا أن هناك أسماء اشتهرت بالمواقف والمبادئ، ثم انقلبت على نفسها، فانتهت إلى سوء الخاتمة، فلما أرادوا التكفير صادقين عما أجرموا، لم يصدقهم أحد، لم تتسع لهم سوى صناديق قمامة التاريخ، وهى (لو تعلمون) أكثر عددًا من صناديق القمامة فى شوارع القاهرة الكبرى. كل نظام كان يلعب نفس اللعبة، يجتذب أصحاب التاريخ الأبيض ليمرّر من خلالهم ما يريد، ثم يلقى بهم عند أول ناصية، ولكن عدد الرجال المنفوخين هذه الأيام أصبح لافتًا وكبيرًا، يمكن أن تلوم انتهازية النظام مرة، ولكن يجب أن تلوم الرجال المنفوخين ألف مرة. لا تستطيع أن تتعاطف مع شخص لم يتعاطف مع نفسه، وليس معقولًا أن تشترى سُمعة، قام صاحبها ببيعها للسلطان، وبثمن بخس، وليس من المنطق أن تدافع عن شخص بحجة أنه كان مخدوعًا، القانون كما نعلم لا يحمى المغفلين ولا المخدوعين، ولا تستطيع أن تنسى أن هؤلاء «الرجال» قلبوا الباطل حقًّا، وأرادوا تسويق الكذب والخداع، بل إنهم كرروا حرفيًّا ما كان يفعله نظام المخلوع، وعندما أصبحوا فى السلطة فعلوا ما كانوا ينتقدونه من تفصيل القوانين، وخلط الخاص بالعام، وسوء إدارة الأزمات، والتأخر فى اتخاذ المواقف، والصمت خوفًا أو طمعًا أو رضوخًا للأمر الواقع، لا معنى لاستقالة تخرج متأخرة من الجيوب، ولا تسامُح مع من أضرّ ثورة لم تبرد نار أمهات شهدائها بعد، ولا احترام لمن باع احترامه. يُعرف الرجال بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال. الشخصيات العظيمة هى التى تمنح المناصب قيمتها وعظمتها، وليست المناصب هى التى تجعل الرجال عظماء. شاهدت فى حياتى الصحفية شخصيات فى أعلى المناصب، وكانوا لا يُثيرون، رغم ذلك، أدنى قدر من الاحترام، والتقيت شخصيات لم تتقلّد أى منصب، ومع ذلك أحسستُ بهيبة لقائهم ممتزجة بعظمتهم وإنجازهم الإنسانى والمهنى، أذكر أننى قابلت الراحل العظيم المهندس حسن فتحى قبل وفاته بعدّة شهور، كان شيخًا ضعيفًا يعيش فى منزله الأثرى بدرب اللبّانة، رأيته مكتئبًا وشاعرًا بخيبة الأمل، لحزنه على مشروع القرنة، ولكنه لم يفقد عندى ذرة هيبة أو احترام، والتقيتُ فى مناسبة أخرى النحات الراحل عبد البديع عبد الحى، فى منزله بمصر القديمة، كان يرتدى جلبابه البسيط، ويطلق لحيته، بدا أيضًا أكثر إحساسًا بالاكتئاب بسبب عدم تحقيق أحلامه، ولكنى خرجت من عنده أكثر انبهارًا بالرجل، وبفنه العظيم، وأكثر إعجابًا بشخصية رفضت أن تبيع أو تتنازل. عندما قال باسم يوسف إن المشكلة ليست فى مَن يشترى، ولكن المشكلة فى مَن يبيع كان على حق، تلك هى المسألة. الذين أعلنوا عن استعدادهم للبيع، ثم باعوا بالفعل، أكبر بكثير مما كنا نعتقد، أو بمعنى أدق، أكبر بكثير مما كنا نتوقع بعد ثورة قام بها (كما يقولون) الشباب الطاهر، حتى على المستوى التجارى، كنا نتوقع أثمانًا أكبر لأشخاص لم يثمّنوا أنفسهم جيدًا، تجار خائبون أيضًا. هذه أيام كاشفة، لولاها ما عرفنا الأبيض من الأسود،عندما يذهب الغبار، لن يبقى إلا ما ينفع الناس، وعندما يُكتب التاريخ لن يرحم المنفوخين، أمّا إذا طلب الذى باع أن نحدّد له متى وأين تنازل وتهاون، اعتمادًا على ما يفترضه من ضعف الذاكرة، فلن يسعنا فى هذه الحالة سوى أن نرد عليه على طريقة وزير إعلام الإخوان: «ابقى تعالى بس واحنا نقولك».