تلك الفراشات التي رحلت عايشناها بما تحمله من فائض من الجمال والألم والنبل الإنساني الفريد، شاهدنا ابتسامتها المضيئة ورأينا اندفاعها نحو الحلم بوطن حر يتسع للجميع، نتشبث الآن بذكراها كلما مضى الوقت ومضينا في مسار آخر بعيدًا عن مسار الأهداف التي اجتمعنا عليها وتوحدنا خلفها، علنا نطفئ واحد من الألف من حزن الفقد ومرارة العجز عن تحقيق الحلم. في الثامنة من مساء التاسع من أكتوبر 2011، فوجئ المصريون بالتليفزيون الرسمي يدعوهم للدفاع عن جيشهم من "اعتداء" الأقباط، في سابقة لم تشهدها مصر من قبل، مما شكل صدمة للكثير من المتابعين الذين لم يتصوروا أن تلجأ أدوات الدولة الإعلامية والإيديولوجية إلى سلاح الطائفية مهما كان، وقتها كان مجموعة من النشطاء والبسطاء قد خرجوا للاحتجاج مؤكدين رفضهم لتهاون الدولة في حقوق بعض مواطنيها، ورفضهم للوجدان القمعي لبعض الذين تشبعوا بالطائفية حتى اعتقدوا أن مجرد وجود بيت عبادة مخالف لدينهم كارثة تستدعي الهدم. كان من هؤلاء الذين حرض التليفزيون على قتلهم، المناضل مينا دانيال، الذي احترق حبًا لهذا الوطن ولم يتوقع يومًا أن تكون نهايته بهذه الطريقة. مرت 3 سنوات على استشهاد مينا بالرصاص وعلى دهس مدرعات الجيش لرفاقه، مرت ولم يحاسب مسؤول واحد على الجريمة، لكن لا يزال مينا دانيال في مخيلة جيل الثورة أحد وجوه 25 يناير، حيث عرفه الثوار في ميدان التحرير أثناء أيام الثورة ال 18، وهو صاحب الصورة الشهيرة التي يقف فيها مع صديقه محمد يشيران إلى بعضهما البعض: "محمد .. مينا، ليه الثورة جميلة وحلوة وأنت معايا"، بالإضافة إلى كونه أحد رموز الرفض أثناء المرحلة الانتقالية التي أدارها المجلس العسكري بسلطوية أفضت إلى العديد من الصدامات مع الثوار، مما جعل البعض يسميه ب"جيفارا الثورة المصرية". خرج ميناء مع رفاقه يوم 4 أكتوبر 2011 في تظاهرة للاحتجاج على هدم أهالي قرية المريناب بمحافظة أسوان، مبنى اتخذه الأقباط كنيسة بدعوى أنه "غير مرخص" وتطورت التظاهرة إلى اعتصام. الرواية المعارضة.. شموع قبطية ورصاص ميري يقول مينا ثابت، حقوقي، وأحد المشاركين في التظاهرة، "بدأنا الاحتجاج أمام ماسبيرو 4 أكتوبر، وكانت مطالبنا واضحة: تأمين مسيحي القرية، فقد كانوا معرضين للاعتداء، وإعادة بناء الكنيسة ومحاسبة المعتدين، وإقالة محافظ أسوان وقتها، حيث صرح بأن المبنى المهدوم ليس "كنيسة"، وأعلنا اعتصامًا في مساء اليوم". ويضيف ثابت "اعتدت علينا قوات الشرطة العسكرية وأحدثت إصابات ببعض المتظاهرين، تم تصوير الاعتداءات وبثها على الإنترنت، مما أثار غضب الناس العاديين، بالإضافة إلى النشطاء الأقباط والمسلمين، وقررنا الخروج في تظاهرة أمام مكتب النائب العام، والخروج في مسيرة حاشدة يوم 9 أكتوبر". وتابع "بدأت المسيرة يوم 9 أكتوبر من دوران شبرا متوجهة إلى ماسبيرو، وتعرضت للهجوم من قبل مجهولين، ولكنها نجحت بالمرور وهوجمنا مرة أخرى في القللي، حتى وصلنا ماسبيرو، وكنتُ وصلت قبل المسيرة بدقائق معدودة، ورأيتُ وقفة بالشموع لبعض المتظاهرين، ورأيت مدرعات وحاملات جنود". ومن جانبه، يروي هاني فرويد، أحد المشاركين في المسيرة، قائلًا "شاركت في المسيرة من بدايتها في دوارن شبرا وحتى هيلتون رمسيس وعندها شاهدت بعض المجهولين يعتدون على المسيرة، وسمعت دوي إطلاق نار ورأيت مدرعة تجري بسرعة رهيبة" مضيفًا "شاهدت مصابًا يحمله آخر على دراجة نارية وكان ينزف بكثافة، وحاول المهاجمون أن يعتدوا على كل المتظاهرين مما اضطرني إلى التراجع والدخول إلى شارع جانبي، وبعدها تخلفت عن المسيرة، وعدت إلى المنزل لأشاهد المأساة وقد اكتملت". ويقول مينا ثابت "ما إن وصلت المسيرة بأعدادها الكبيرة حتى رأيت الجنود يطقلون النار في الهواء، وبعدها بدأت المدرعات في التحرك، ورأيت بعيني دهسها للمتظاهرين، وبعدها بدأ الجنود في إطلاق النار على المتظاهرين، والاعتداء على كل من يرونه". وتابع "تمكن البعض من اللجوء إلى المباني والعمارات المجاورة لمبنى ماسبيرو، وكان معي 4 سيدات وبفعل التدافع دخلنا إحدى العمارات، وانتظرنا قليلا، ثم خرجت بهن من الجهة الخلفية ماسبيرو، ورأيت مجموعة من "البلطجية" يوقفون المتظاهرين ويستجوبهم عن ديناتهم، وكلما وجدوا مسيحيًا اعتدوا عليه". أدت الاشتباكات بين قوات الشرطة العسكرية والمتظاهرين إلى سقوط 27 شخصًا، أغلبهم من الأقباط، ودخل بعض المواطنين على خط الأزمة وبدأوا يهاجمون المتظاهرين حوالى الساعة التاسعة مساءً، وتواردت الشهادات بأنهم من أهالي منطقتي بولاق أبو العلا وغمرة. وبالتزامن مع الاشتباكات توجه العشرات من النشطاء المسلمين والمسيحيين إلى ميدان التحرير هاتفين بسقوط الحكم العسكري، ومنددين بالتعامل العنيف للشرطة العسكرية مع المتظاهرين، ولم يفلحوا في الوصول إلى ماسبيرو، وسيطرت الشرطة على ميدان التحرير، وتم إلقاء القبض على العشرات. الرواية الرسمية: مؤامرة تقول الرواية الرسمية إن الأقباط بدأوا في الاعتداء على قوات الشرطة العسكرية بالحجارة والسيوف والأسلحة النارية، ما أدى إلى مقتل 3 من عناصر الشرطة العسكرية، ولم تتورع أن تلجأ تلك الرواية إلى "كارات المؤامرة"، ولكن لم تفسر تلك الرواية لماذا لم يعتدِ الأقباط منذ اللحظة الأولى لاعتصامهم الذي بدأوه منذ أسبوع، ولماذا لم تستمر المؤامرة؟ فقد اكتفى المتظاهرون بهذه المسيرة منكفئين بعدها على جراحهم التي تتجدد مع كل ذكرى. قال سامح سيف اليزل، في مداخلة بعد المذبحة، مع الإعلامي عمرو أديب، إن المتظاهرين اعتدوا على مبنى الأهرام، وكسروا بعض السيارات في شارع الجلاء الطريق إلى ماسبيرو، وفي ماسبيرو بدأوا بإلقاء الطوب وحرقوا سيارات الجيش، وأغلقوا الكورنيش، ثم حدث ضرب النار". وأضاف اليزل، "وبعد إلقاء الحجارة يبدو أن هناك اتصالات تمت، وكان هناك أحد زعماء الحركات السياسية، وقد ترك قيادة الحركة الآن، كان يدير هذا الكلام وكان يحرك بعض حاملي الرشاشات والبنادق والخرطوش". وتابع "انضم إليه أحد الائتلافات الشبابية الشهيرة وكان يحملون السلاح أيضا وبدأوا إطلاق النار على القوات". ومؤخرًا، قال أسامة هيكل، وزير الإعلام السابق، ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي الحالي، إن "ماسبيرو مذبحة "إخوانية" محكمة بهدف إسقاط الدولة والإيحاء بأن الجيش المصري يقتل المسيحيين. وأضاف هيكل في لقاء تلفزيوني ببرنامج "حصريًا مع ممتاز" المذاع على قناة "العاصمة" بتاريخ 2 أكتوبر الحالي: "أقسم بالله الجيش مكنش معاه طلقة ذخيرة واحدة، والشرطة لم تكن موجودة في هذا الوقت، وما حدث هو مؤامرة إخوانية اتعملت في هذا التوقيت، وكانت على وشك إسقاط الدولة بوضع الجيش في المواجهة، وكانت مؤامرة محكمة جدًا من أجهزة خارج مصر". مآلات المذبحة يقول مينا ثابت "انقسمت القضية إلى شقين في التحقيقات، الأول عسكري انتهى إلى اتهام 3 من أفراد الشرطة العسكرية بالقتل غير العمد لإساءتهم قيادة المدرعات ودهس المتظاهرين بالخطأ، والثاني تحقيقات مدنية في بلاغات تتهم الأقباط بالاعتداء على قوات الجيش وحرق المدرعات، ولكن هناك بلاغات من أهالي الشهداء تتهم قوات الشرطة العسكرية بقتل أبنائهم ولم يتم استدعاء أحد للتحقيق أو اتخاذ أي إجراءات قانونية في هذا البلاغات". أقباط المهجر .. وأوهام الاستقواء بالخارج في الذكرى الثالثة لمذبحة ماسبيرو طالب اتحاد المنظمات القبطية بأوروبا (إيكور) الدولة والرئيس المشير عبد الفتاح السيسي، بإعادة فتح التحقيق فى مذبحة ماسبيرو، مطالبين بفتح تحقيق لإظهار الحقائق، مؤكدين أن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. وعلق مينا ثابت على مطالب أقباط المهجر قائلًا: "من حق أقباط المهجر أن يطالبوا بتحقيق عادل في المذبحة، ومن حق أي إنسان أن يطالب بتحقيق العدالة فهي مطلب إنساني، والخطاب الذي يعتبر أن أي توجيه لوم للنظام من مواطنين مصريين في الخارج نوعًا من "الاستقواء بالخارج" انتهى منذ الستينيات، ونحن الآن 2015 " مضيفًا أن أقباط المهجر ماهم إلا مصريين أقباط دفعتهم ظروف صعبة إلى الهجرة للخارج، لذلك فهم يشعرون بأقباط الداخل، وهم جزء من عائلات مصرية ولهم أقارب وأصدقاء مصريين". أثر الفراشة .. أثر الرصاص تناولت المخرجة أمل رمسيس فيلم "أثر الفراشة" قصة حياة الشهيد مينا دانيال من خلال رواية أخته ماري، وضمنت في فيلمها قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش بعنوان "أثر الفراشة" والتي يقول فيها: أثر الفراشة لا يُرى أثر الفراشة لا يزول هو جاذبية غامضٍ يستدرج المعنى ويرحلُ حين يتضح السبيل. وتروي فيه ماري ذكرياتها مع مينا الذي كانت تعتبره ابنها لفارق السن بينهما، وتقول: "كان مينا الحاجة الحلوة الوحيدة في حياتي"، فقد كان عاشق للحياة، مينا غيّر حياتي بس خلاّني أعيش، اللي حصل جوايا، فوقت، صحيت، بعد 9 أكتوبر حاسة إن أنا ليّا دور حقي، أنا ليّا حق وهاخده، مش هاسكت عليه".