لم يهنأ خالد السرجانى بأن يكون مدير المركز الصحفى لمهرجان القاهرة السينمائى ومتحدثا باسمه، بعد أن اختاره رئيس المهرجان، الأستاذ سمير فريد، لهذا المكان، فى ظل تلك الدورة التى كان يستبشر خالد بها كثيرا لتكون إعادة انطلاق للمهرجان، الذى اقترب من الشيخوخة خلال المراحل السابقة، وتجمد، وليعود إليه شبابه.. وإعادة صورة مصر الجديدة إلى العالم.. فلم يمهله القدر حتى يرى فاعليات المهرجان الذى يعود إلى ساحة المهرجانات العالمية.. وكان فخورا بأن يكون متحدثا باسمه. كما لم يمهله القدر أن يستمتع بزواجه الذى أخرجه من قائمة «أشهر العزاب» فى الصحافة المصرية. .. فقد عاش خالد السرجانى القادم من بورسعيد «مواليد 1960» محتجا وغاضبا على أمور كثيرة.. وكان يحاول الإصلاح بقدر ما يستطيع فى مشاركته فى العمل العام وطرحه القيم النبيلة بثقافته الواسعة والموسوعية.
.. وقد زادت معرفته من احتجاجه.. فكان دائما ناقدا وغاضبا على «الأمور المايلة»، ومن هنا كان حاضرا فى إبداع الاحتجاج.. وقد بدأ هذا مبكرا عنده، ومنذ تخرجه فى قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة عام 1982 وهو يتسلح بالثقافة فى كل مجالات الحياة، حتى أصبح بالفعل مثقفا كبيرا.
.. فلم يكن خالد يترك أى كتاب جديد حتى يطرقه ويسأل عليه ويأتى به من أى مكان، حتى ولو كلفه الكثير.. فكثيرا ما كان يطلب من أصدقائه المسافرين خارج البلاد سواء فى أمريكا أو لندن أو بيروت كتبا جديدة قرأ عرضا عنها فى صحيفة سيارة أو على موقع إنترنت للكتب الجديدة.. ويقرأها ويهضمها ويناقشها مع كبار القراء والمتابعين لأمور الثقافة، ليست المصرية أو العربية فقط، وإنما كل أنحاء العالم، بما فى ذلك ثقافة أمريكا اللاتينية..
وكما كان يهدى الكثير ممن يناقشونه كتبا تتناول المعرفة.. فقد كان قارئا نهما ولا يبخل على أصدقائه أبدا بالكتب.
وتجده يصاحب الكتاب أينما تجده، فى مكتبه فى الصحيفة -أى صحيفة عمل بها- وفى المواصلات وعلى المقهى.
وكما كان مهتما بأحدث الكتب التى تصدر عن دور النشر.. كان أيضا من مقتنى الكتب القديمة.. وكتب التراث والدوريات المختلفة.. وكان من الشخصيات المعروفة لدى بائعى تلك الكتب والدوريات منذ سور الأزبكية وحتى تعدد هذه الأسوار.. فكان بائعو تلك الكتب يطلبونه ويعرضون عليه ما عندهم.. وهو أيضا كان يبحث عندهم عن طبعات قديمة من كتب لمؤلفين كبار لم تعد تطبع كتبهم..
وكان يضع ميزانية شهرية لشراء الكتب والدوريات الحديثة والقديمة، فقد كان باحثا جادا ودقيقا فى الكتب وطبعاتها المختلفة، وخبيرا فى دور النشر والمكتبات، وصارت مكتبته الشخصية تحمل ما يقرب من 8 آلاف كتاب، غير الدوريات الكبرى القديمة والحديثة، ولعل نقله لمكتبته من شارع الهرم، حيث كان يسكن قبل الزواج بأيام، إلى التجمع الخامس، اختياره الجديد مع الزواج، كان سببا فى إجهاده الكبير الذى بدا عليه قبل الزواج مباشرة.
.. كان محترفا فى الثقافة.. فلم يكن يقف عند الكتب، وإنما كان اهتمامه وعشقه للسينما كبيرا.. فلم يترك فيلما فى قاعات السينما إلا وشاهده، وكان مرجعا أيضا فى الأفلام بخلاف مشاهدة ما كان يقع فى يديه من «سيديهات» و«ديفيديهات» أفلام قادمة إليه من الخارج، وبناء على متابعته وطلبه من أصدقاء كثر له.
وانضم إلى جمعية نقاد السينما فى مطلع الثمانينيات وبعد تخرجه فى الجامعة.. وكذلك إلى جمعية الفيلم.. وقد حملها هموما على ظهره بعد أن خذلها كثيرون فى السنوات الأخيرة، فكان حريصا على نشاط الجمعية التى كان لها حضور كبير بها فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، ومهرجانها السنوى وجوائزها، والذى كان يضعه نجوم السينما «بروش» على صدورهم ودعاية لنجوميتهم وأفلامهم.
وبدأ عمله الصحفى فى مؤسسة دار التحرير «الجمهورية»، حيث عمل بمركز أبحاث الجمهورية.. وانتقل بعد ذلك إلى «الأهرام»، وأسهم فى تأسيس «الأهرام المسائى»، واختاره المفكر البارز المرحوم لطفى الخولى ليعمل معه فى صفحة الحوار القومى، والتى كانت «الأهرام» تحاول وقتها استعادة وجودها القومى بها.
وكانت تلك الصفحة تتخذ من مقولة المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبى «ما بال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس ويرفعون الالتباس ويفكرون بحزم ويعملون بعزم ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون».. شعارا لها.. وكان كثيرا ما يكتب افتتاحية الصفحة.. وكانت منتدى للفكر القومى العربى.. وتواصل وقتها مع كثير من المفكرين العرب.
كل ذلك زاد من ثقافته واحترافه واحتجاجه.
.. وكان ذلك وراء إسناد إبراهيم عيسى إليه، عندما أعاد إصدار جريدة «الدستور» فى عام 2005، مسؤولية صفحة الصحافة، التى وضع لها نموذجا جديدا فى عالم الصحافة والإعلام.. نموذج نقد الصحافة والصحف.. فكانت صفحة مثيرة للجدل وضجة كبيرة وحربا أهلية بين الصحف والصحفيين فى تلك الفترة، للخروج من حالة «التكلس» التى كانت عليها الصحافة القومية ورؤساء تحريرها فى تلك المرحلة فى الموالسة لنظام مبارك والترويج لمشروع التوريث.. فكان الصحفيون ورؤساء التحرير ينتظرون كل يوم أربعاء صدور العدد من الدستور التى كانت تصدر أسبوعيا، ليروا ماذا كتب السرجانى عنهم.
.. فكانت رؤية مبكرة وتأسيس لمنهج جديد فى الصحافة لم تشهده الصحافة المصرية من قبل، وساعد ذلك كثيرا فى فضح الكثير من الممارسات غير المهنية التى كانت عليها بعض الصحف.. وهو ما جعل له خصوم فى تلك الصحف، ومارسوا هجوما حادا عليه وعلى شخصه وبعضهم كان من الجهل حتى يعايروه بأنه حامل الكتب، لكثرة ما كان يصل إليهم من مخبريهم بأنه يشترى كتبا كثيرة، حاملا لها إلى عمله أو فى رحلته إلى منزله يوميا!!
.. وقد دفع ثمنا لمواقفه المستقلة هذه، ولم يسعَ لأى سلطة أو مال.. فلم يكن لأحد أن يستطيع أن يوجه قلمه وكتابته فى أى اتجاه إلا ما يمليه عليه ضميره المهنى ورؤيته وثقافته واحترافه.. واحتجاجه. .. وكان حاضرا فى كل القضايا المهنية، ومناضلا نقابيا وقف مع زملائه محتجا فى نقابة الصحفيين ضد نظام مبارك فى معركة قانون الصحافة عام 1996، حتى سقط القانون، ومساندا لحرية الرأى والتعبير، ومشاركا فى كل الندوات التى يدعى إليها من أجل الدفاع عن الرأى.
.. وكان حاضرا فى أحداث ثورة 25 يناير 2011 وربما كان من أحد المحرضين على تلك الثورة فى كتاباته ونقده واحتجاجه على مبارك..
.. وكان يرى دورا كبيرا للإعلام فى التغيير بعد الثورة، ومن ثم كان مشاركا فى منظمات كثيرة تدعو إلى وضع تصور جديد للإعلام يناسب المراحل الانتقالية والتحول الديمقراطى.. ومن أجل صحافة حرة ديمقراطية.
وكان كاشفا لجماعة الإخوان مبكرا، حيث كان يراها جماعة متخلفة ورجعية، ولا يمكن أبدا أن تكون ديمقراطية، وذلك فى وقت كان يشجعها البعض ويدعمها ضد نظام مبارك.. إلا أنه كان مصرا على موقفه من الجماعة، ولم يثق أبدا فى كلام قياداتهم -من مناقشات كثيرة معه فى أثناء عملنا سويا فى جريدة «الدستور»- الداعى إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد صدقت رؤيته وبصيرته عندما تولى الإخوان الحكم.
.. وهنا وقف مواجها الجماعة فى اعتدائها على حرية التعبير والصحافة.. فكان له دور عظيم وقاسم مشترك وجسر يجمع شتات كل المنظمات والائتلافات التى انتفضت ضد اعتداء الإخوان على الحرية والصحافة.. والرأى والتعبير.
.. وقد جعل كل ما سبق أن يكون دائما على خلق، وكأنه يترجم حالة الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبى: «علىّ قلق كأن الريح تحتى» .. والتى استدعاها الشاعر الكبير محمود درويش لديوانه «هى أغنية هي أغنية».
.. فعاش قلقا على مستقبل هذا الوطن فى حريته وديمقراطيته.. .. ومات دون أن يهنأ بأن يرى وطنه، يستعيد كامل إرادته في الديمقراطية، والحرية، لكنه نال احترام الجميع.
رحم الله المثقف والمحترف والمحتج.. رحم الله خالد السرجانى. (من مقدمة الكتاب الذى صدر عن مهرجان القاهرة السينمائى عن الراحل ويعاد النشر بمناسبة حفل تأبين الراحل في نقابة الصحفيين اليوم الأربعاء 16 سبتمبر)