1 أفتح النافذة التى تطل على حديقة صغيرة، الحديقة الصغيرة تطل على حديقة أكبر والحديقة الأكبر تطل على حائط باهت بارتفاع عشرة طوابق. إذا ما مددت البصر فسوف أصطدم بالحائط مباشرة ولكى أؤجل هذه اللحظة التعيسة فإننى أخفض بصرى ناحية الحديقة الصغيرة التى لا أود استهلاكها بنظرة واحدة ومن ثم أفتح النافذة أولا، أحدق فى زجاجها لدقائق ثم فى شيشها الحديدى وبكل هدوء أخفض بصرى ولا أرفعه حتى ينتصف النهار، ساعتها أمضى إلى الحديقة الأكبر. هنا شجرة زيتون وارفة وبجانبها شجرة ليمون، أحدق فيها مباشرة وهى تكاد تسقط بأغصانها، الشجرة نفسها التى جفت تماما حين بلغت السادسة من عمرى كانت هناك قابعة باصفرارها الذى خيب آمالى، كان مرعبا أن تحب شجرة تعرف أنها تموت يوما بعد آخر، المياه التى كنت أرشها عليها كانت تتشربها الأرض وفى صباح اليوم التالى تهزل أكثر، أحيانا كانت تنتعش للحظات، أوراقها المصفرة تتمايل مع الريح ويبدو أنها أخيرا ستستحيل إلى خضراء، بل إنها كانت تخضر أحيانا لكنها ما تلبث أن تخذلنى وتجف فجأة. الشجرة نفسها أراها اليوم بالاصفرار ذاته، بالجفاف، بالموت القادم لا محالة عما قريب، أراها من نافذة غرفتى، فى نظرتى الثانية الممتدة إلى الحديقة الأكبر، غدا سوف تموت شجرة الليمون ولن يبقى أمامى سوى الحائط الباهت، أما شجرة الزيتون الوارفة فلا تعنينى بالمرة، الحقيقة أننى لا أراها وإذا ما رأيتها فكشجرة تخص حديقة أخرى لا تقع فى مرمى بصرى فى هذا الصباح غير الممطر والذى يجعل من حياتى صندوق أحذية متربة يمتد أسفل السرير. عصفورة بائسة تقفز فجأة وتحط على شجرة الليمون، تتنقل بين فروعها بخفتها وزيغ عينيها ولا يبدو أنها تفكر للحظة فى الشجرة الوارفة بجانبها، فى العراء تقريبا تضع عشها، العش الباهت فوق الشجرة الباهتة أمام الحائط الباهت فى هذا اليوم الباهت الذى لم تمطر فيه ولم تطلع له شمس. الشجرة الذاهبة إلى حتفها كانت بعيدة عن المياه، المياه تهبط إليها لكنها تنساها، تتركها هناك حتى تأتى شجرة وارفة ودون استئذان تسحب المياه كلها إليها والأخرى تنظر فقط ولا تعلق، ترى طعامها فى أفواه الآخرين وتمعن فى الصمت. أغلق النافذة من جديد، أولا الشيش الحديدى ثم الزجاج، أقول وداعا لشجرة الليمون، وداعا يا شجرتى العزيزة، ربما التقينا فى عالم أفضل أكون فيه شجرة ليمون وتكونين فيه شخصا يرص الكلمات بجانب بعضها فى الليل ويبكى، لكن لا تقلقى، غدا سأفتح النافذة من جديد وستكونين هناك باحتضارك اللانهائى وأفراخ العصفورة فاتحة فاها والعصفورة حائرة فى توزيع الطعام وطعامك بكل تبجح تسحبه شجرة زيتون وارفة. 2 وراء الباب نقف، أنا وأنتِ، الباب الخشبى العتيق يفتح على ممر طويل فى نهايته غرفة مغلقة، لا نريد أن ندخل الغرفة ولا أن نعبر الممر، نريد فقط أن نطرق الباب، مرة أنت بالداخل ومرة أنا. أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق، ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق. فى هذه الأثناء القصيرة كنا قد «عبرنا بحرا وقف الآخرون بساحله». 3 فتحوا الباب فهبّت أربعة جراء متشبثة بقدميه، انحنى عليها وعندما رفع بصره كانت الجراء قد فرت إلى مكان بعيد. كان الوقت مساء وكانت هى قد خرجت إليه. أغلقوا الباب وتحت جلده وضعوا دودة هائلة، لم يشعر بها أول الأمر. فى مساء آخر قريب خرجت الدودة، بصعوبة بالغة فى البداية، حتى ظنها بعوضا ينقر الجلد ويفر هاربا. عندما أمسك الدودة بيديه كان الباب قد أغلق من جديد وكانت هى قد خرجت إليه والجراء فرت إلى مكان بعيد. 4 «إذا ما أحببتكَ أكثر فسوف تنسى قدمى المشى» جملتكِ العابرة هذه وتَّدَت الغرغرينا فى رجليّ والآن يصبح بيتك القريب ذلك البيت خلف منزلنا القديم والذى حاولتُ التسلل إليه عشرات المرات دون جدوى، وعندما تمكنت أخيرا من صعود سلمه الحجرى أصابنى الرعب، لا من خيوط العنكبوت ولا حتى من الشقوق التى تقبع بها ثعابين متحفزة، بل من تصلب الرجلين كما فى حلم، من نسيان المشى والحجارة والبيت نفسه. 5 أنا هنا فى الصالة وأنت نائمة منذ عشر دقائق، فجأة يلفحنى الحنين إلى تقبيل رأسك، أدور فى الصالة شمالا ويمينا، أتخبط فى الأثاثات، أتجرجر على الأرضية الخشبية حتى أصل إلى حافة سريرك وبكامل جسدى المجروح أقبع هناك. نقطة دم وحيدة تنسل من إصبعى لتسيل على جبهتك، تفتحين عينيك وتشربينها، تنسل نقاط أكثر تشربينها كذلك حتى تجف كل الجروح، ساعتها تعاودين النوم وتحلمين أن نقاطا حمراء كانت تنقط عليك من السقف وأن بللا دافئا كان يلفك. فى الصباح تتحسسين العرق فوق جسدى النائم وتحبيننى أكثر.