من دولابها القديم، تخرج الدولة هذه الأيام اسم د.كمال الجنزورى، رئيس الوزراء الأسبق، للقيام بمهام جديدة. الرجل الثمانينى دخل بورصة الترشيحات بعد أن ارتفعت أصوات بعض القوى السياسية مطالبة بعودته لممارسة العمل السياسى ولمّ شمل الأطراف قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة. الجنزورى، بحكمة السنين وإدراكه لأهمية عدم التحرك قبل الإذن له بذلك رسميا، تريث قائلًا: «أرفض الحديث فى هذا الأمر حاليا، لأننى حريص على قضاء فترة صمت إعلامى، ولا أريد الدخول فى مناقشات جانبية مع أى من الأحزاب والقوى السياسية». وإذا كانت صحة سيف اليزل وتردد عمرو موسى قد أفسحا الطريق أمام الجنزورى، فإن البوار السياسى وصل إلى حد الاستنجاد بالجنزورى، بعد أن طالبت أحزاب وتحالفات انتخابية، فى مقدمتها أحزب ائتلاف «نداء مصر»، الجنزورى بالعودة مجددًا لممارسة العمل السياسى، وقيادة تحالف انتخابى موسع لتوحيد القوى المدنية ولمّ شملها، فى ظل عدم قدرة الأحزاب على القيام بهذا الدور. وحسب طارق زيدان، منسق الائتلاف، فإن التجربة السابقة أثبتت أن «الجنزورى» هو خير من يصلح لتلك المهمة وإعادة هيبة الدولة، وأضاف أنه «يجرى حاليا الاتفاق على تشكيل وفد من القوى السياسية والأحزاب، وشباب ثورتى 25 يناير و30 يونيو، لزيارة الجنزورى، والتحدث معه فى هذا الشأن، ونحن على ثقة بأنه لن يتخلف أبدًا عن أىّ مهمة وطنية لصالح مصر كما عهدناه دائما». إن مجرد التفكير فى شخص الجنزورى ومطالبته بالعودة إلى العمل السياسى، دليل على حجم مأساة السياسة وإماتتها فى مصر، خصوصًا فى ظل تغييب الشباب وعزوف كثيرين عن الانخراط فى العمل السياسى، واحتكار فلول نظام مبارك وعدد من رجال المال والأعمال والأحزاب الدينية للسباق الانتخابى، الذى نقلق من نتائجه بالقدر نفسه الذى نطالب فيه باكتمال هذات الاستحقاق الانتخابى. ومع ذلك يبقى الجنزورى لغزًا فى حضوره وفى غيابه. فالرجل، ومنذ ثورة يناير، هو أحد الأسماء الأولى التى تتردد على الألسنة كلما دار حديثٌ حول تشكيل حكومة جديدة. وحين انتقده خصومه لتوليه رئاسة الحكومة رغم تقدمه فى العمر، رد عليهم مستنكرًا وساخرًا: «هو أنا حشيل حديد»! عنيد، لكنه حازم. ذاكرته حديدية، لكنه دكتاتور. هذا هو د.كمال الجنزورى، الذى يقترب حثيثًا من سن الثالثة والثمانين، قبل أن تكمل ثورة 25 يناير عامها الخامس. للإنصاف، فإن الجنزورى مشهودٌ له بدأبه فى العمل، وقدرته على مواصلته ساعات طويلة رغم عمره المتقدم، فضلاً عن ذاكرته الحديدية التى تحتشد بالأرقام والبيانات عن جميع الأنشطة التى تقوم بها الحكومة، ومتابعته الدقيقة لجميع أعمالها، وحرصه الشديد على المال العام، وعفة يده وأمانته اللتين أصبحتا مضرب الأمثال، رغم خدمته الطويلة فى ظل حاكم ندر من لم يكن فاسدًا من كل من عملوا معه. طوال مدة عمله التى امتدت نحو نصف قرن، أدى الجنزورى أدوارًا عدة على فترات متقاطعة فى خدمة مصر، حرص خلالها على تقديم رؤيته الخاصة لأحوال البلد فى مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية. وإذا كان قد نجح فى أحيان كثيرة بأدائه الهادئ المتزن فى كسب عطف الشعب وثقة عدة زعماء وأنظمة، فإن حدته وتمسكه بمواقفه صنع له خصومًا أشداء فى كل موقع. ابن قرية جروان، مركز الباجور، فى محافظة المنوفية، ولِدَ فى عهد الملك فؤاد الأول، وعاش طفولته وطرفًا من شبابه الأول فى عهد الملك فاروق الأول. عاصر ستة رؤساء وعمل مع اثنين منهم فى الجمهورية الأولى، هما أنور السادات وحسنى مبارك، قبل أن يُكلّف برئاسة حكومة تصريف الأعمال فى الجمهورية الثانية، بقيادة مرشح الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة محمد مرسى. وفى عهد الرئيس المؤقت عدلى منصور، صدر قرار جمهورى بتعيين الجنزورى مستشارًا لرئيس الجمهورية. بدأ الجنزورى فى عهد مبارك جملة من المشروعات العملاقة بهدف تسيير عجلة الإنتاج والزراعة، والتوسع بعيدًا عن مناطق وادى النيل المزدحمة، من ضمنها مشروع مفيض توشكى الذى يقع فى أقصى جنوب مصر، وشرق العوينات، وتوصيل المياه إلى سيناء عبر ترعة السلام، ومشروع غرب خليج السويس، بالإضافة إلى الخط الثانى لمترو الأنفاق بين شبرا الخيمة (بالقليوبية) والمنيب (بالجيزة)، مرورًا بمحافظة القاهرة، للحد من الازدحام المرورى بمحافظات القاهرة الكبرى. تباينت الآراء حول هذه المشروعات بين ممتدح لها كخطط تنموية «قومية»، ومنتقد يراها بذرت كثيرًا من المال العام دون أن تسهم حقا فى التنمية، وكانت غطاء لممارسة الفساد، وهو فسادٌ قال الجنزورى بعد نجاح ثورة يناير إنه كان وراء إقصائه. فى عهد حكومته الأولى، أقر الجنزورى مجموعة من القوانين والخطوات الجريئة، من بينها قانون الاستئجار الجديد محدود المدة، كما أسهم فى تحسين علاقة مصر بصندوق النقد الدولى وكذلك بالبنك الدولى. كما شهد عصره تعثر بنك الاعتماد والتجارة، وتدخلت الحكومة لحل الأزمة وضم البنك إلى بنك مصر. أشرف الجنزورى على عملية خصخصة واسعة بإشراف مؤسسات مالية دولية بينها صندوق النقد الدولى، واستُدعى فى أكتوبر 2011 للإدلاء بشهادته فى قضية الخصخصة التى أشرف عليها. ويذكر البعض لحكومته سعيها الجاد إلى تحسين أجور العاملين فى الدولة. تولى الجنزورى رئاسة الحكومة خلال الفترة (ديسمبر 2011- يوليو 2012)، وبعد انتخاب السيسى رئيسًا، تحول إلى مستشار الرئيس لشؤون الاقتصاد اعتبارًا من يوليو 2013. ولعل هذا هو السر وراء الاهتمام بمشروع توشكى، الذى كان حلم الجنزورى فى التسعينيات، وودأته النتائج الهزيلة رغم الإنفاق الباذخ عليه!