قولون إن العصور الوسطى انتهت بمقولة عامة خلاصتها أن «الدين فشل فى إسعاد البشرية، وأدى إلى تمكين الاستبداد وتوظيف الله لدى الكنيسة»! أستغفر الله العظيم، هذا ليس قولى، إنه قول العلمانيين الملحدين، وهؤلاء أنفسهم بعد قرون من التنوير يرددون الآن نفس المقولة القديمة، لكنها هذه المرة ضد العلم، فقد قالوا إن «العلم فشل فى إسعاد البشرية، وأدى إلى تمكين الاستبداد، وتوسع الفساد، وتلويث البيئة، وتدمير صحة الكوكب الذى يأوينا»! الآن يطالب الإنسانيون الجدد بصيغة أخرى، بعد أن خسرت الميتافيزيقا، وخسر العقل البرجماتى المعملى، وضعف الرهان على السماء، واكتملت جريمة استحلاب الأرض. ما هذه الصيغة التى يمكن أن يراهن عليها الإنسان (حتى لو بالوهم) ليستمر قرونا أخرى يعانى ويكافح، ويحلم بالعثور على الفردوس الضائع، ثم يكتشف مجددا، أنه أخفق كالعادة، وعليه البحث عن صيغة سابعة ورهان سابع عشر؟ يا عزيزى الحالم، إن ذئاب الواقعية من الانتهازيين، لا يفكرون مثلى ومثلك، فهم يبيعون الرائجة، حتى لو كانت السلعة هى أمهاتهم! المراقب للأعراض التى يعانى منها عالمنا المتضخم يلاحظ بوضوح نوع السلعة الأكثر رواجا وربحا فى هذا الزمان، فبعد الأرض والماء، والسلاح والنساء، والمخدرات والدواء، صار الإعلان هو الكيان، هو الموضوع، هو الأيديولوجيا، هو «البيعة»، هو كل شىء...! قرب قرب.. عندى اللى يخللى العجوزة صبية، ويرجع مرسى الاتحادية، اشترى ثورة تاخد واحدة تانية، واعمل تفويض تلاقى بلدك أد الدنيا! مكملين، الزمالك قادم، الثورة مستمرة، بكرة تشوف، انتو نور عينينا، من أجلك أنت، خريطة المستقبل..... فى هذا العالم الذى يخاطب غريزتك الأساسية، يتراجع أوليفر ستون، وتصعد شارون ستون، تخفت الثقافة ويزدهر «الفنكوش»! هذه هى منصة انطلاق «الابتذال» فى عصر الجماهير الغفيرة التى تستهلك دون وعى كل ما يقدمه تجار المرحلة باعتباره «الأكثر بياضا» و«الأطول عمرا»، و«العاصمة الجديدة»، «والقناة الجديدة» و«الإدارة الرشيدة»، فالجيد هو ما يقوله الزعيم، والسيئ هو ما يغضب الزعيم. المؤسف أن الزعيم ليس لديه قدرة على التفرقة بين الجيد والردىء، الظلم والعدل، الحق والباطل، إلا بمعيار الحشد (كم صوتا فى الصندوق؟) إذا قالت الجموع إن الكرة مربعة فهى مربعة بالإجماع، وإذا عاد أبو ذر فاقتلوه، أو أرسلوه إلى قسم المطرية.. إنه أقلية.. بتاع ال3%، يا أبا ذر أفسح الطريق لقطار الأغلبية الكاسحة! قديما كان هناك مثقف إنجليزى اسمه ماتيو آرنولد، عاش يحذر من التسطيح، ومن خطر الغوغائية على العقل، ويردد أن الثقافة درجة وعى تتجاوز الحالة الخام للإنسان، بحيث يسمو على غرائزه البدائية، ويراعى الشروط التى توصلت إليها المجتمعات فى تطورها الحضارى، التى يسميها هوبز «العقد الاجتماعى»، لكن السلطة فى بلاده مضت فى طريق الاستعباد واستغلال البشر معتمدة على القوة وليس العقل. تلك القوة هى التى أدت إلى ظهور النازية والفاشية، مدعومة بنفس الحجج التى تتحدث عن العدد، والحشد، والجموع، والجماهيرية، وصندوق الانتخابات، وأدت هذه الهيستيريا الجماعية إلى حربين عالميتين لم يخسر فيهما العالم ملايين القتلى وفقط، بل خسر ضميره، والكثير من إنسانيته وتحضره، لهذا صرخ إيمانويل كانط مطالبا بشجاعة التفكير المستقل، المنزه عن هتافات الجموع، وسخر بسمارك من وثنية الصندوق قائلا: «لو كان الصواب يحدده عدد المؤيدين فإن 9 حمير يفهمون أكثر منى ومنك». يا أحباب الحلم.. الطريق موحش، ولا بديل حتى لو مضيت فيه وحدى.