تصدر الرئيس الأمريكى باراك أوباما عقب جولته الأخيرة إلى إفريقيا والتى اختتمت يوم 28 يوليو الماضى، كل رؤساء الولاياتالمتحدة من حيث عدد مرات زيارة القارة الإفريقية. ولا يعكس هذا الاهتمام الواضح، وغير المسبوق، من قبل أوباما بإفريقيا حنينا إلى أرض الأجداد، حيث ينتمى والده إلى كينيا، أو محاولة لتعويض القارة عن الظلم التاريخى الذى عانته جراء فقدانها جزءا مهما من قوتها الشابة عبر تجارة الرقيق التى صبت بشكل أساسى فى دعم بناء القوة الأمريكية، بقدر ما يمثل، أى هذا الاهتمام، جزءا من التنافس الأمريكى-الصينى على الوصول إلى ثروات القارة السمراء، لتعزيز قدراتهما الصناعية والتنافسية. وبغض النظر عمن من القوتين سيمكنه خلال السنوات المقبلة جذب القارة السمراء إلى فلكه، فقد أضحى جليا أن إفريقيا باتت قبلة من يبغى تعزيز نموه الاقتصادى. وإذا كانت القاهرة عُدت فى ستينيات القرن العشرين بمثابة الشمس فى النظام الإفريقى البازغ آنذاك، والكعبة التى يحج إليها كل المناضلين الأفارقة من أجل استقلال دول القارة وتحررها، فإنه لم يعد ممكنا، فى ظل هذا التافس المحموم على إفريقيا، القبول باستمرار التراجع الذى أصاب مكانة مصر ودورها فى القارة طوال ما يزيد على أربعة عقود متواصلة، خاصة وأن التحديات النابعة من هذا الفضاء الإفريقى باتت تمس ركائز الامن القومى المصرى، بقدر ما تعد الاستفادة من الفرص التى تتوفر فى هذا الفضاء شرطا مهما لتحقيق الطموح التنموى المصرى الراهن: 1- التحدى المائى الذى باتت مصر تواجهه بسبب التطلعات التنموية لدول حوض النيل والذى يدفعها، عن حُسن نية من قبل البعض أو عن مكرٍ مُبيت من قبل البعض الآخر يستهدف الإضرار بمصر ومكانتها ومصالحها، للمطالبة بمراجعة نظام الحصص التاريخى. وفى الواقع، فإن هذا التحدى لا ينفصل عن سعى الصين وأطراف أخرى، بعضها عربى، لاستغلال ثروات الحوض المائية وأراضيه ليكون سلة غذاء عالمية، الأمر الذى من شأنه حتما الضغط على موارد الماء المتصرفة فعليا من الحوض حاليا. وفى التحليل الأخير، يبدو أن مياه النيل لم تعد بعيدة عن أى مخططات قد تستهدف الضغط على مصر أو تقويض مكانتها. 2- سعى مصر لتأسيس مركز صناعى عالمى فى محور قناة السويس لا يمكنه أن يبلغ غاية العالمية من دون الاعتماد على موارد المواد الخام الإفريقية الضخمة، والتى يمكنها أن توفر لهذا المحور، إذا ما توافرت طرق نقل كفؤة تربطه بمختلف مناطق القارة، ميزة تنافسية مهمة فيما يتعلق بتكلفة النقل، فضلا عن أن تنوع ثروات القارة سيمنح بدوره أى مركز صناعى فى محور القناة تنوعا يجعله قبلة حقيقية للتجارة الدولية، بينما سيتيح تسارع معدلات النمو فى القارة السمراء خلق سوق مهمة وقريبة لمثل هذا المركز الصناعى. ترد الأغلبية الغالبة من التحليلات المصرية التى عنيت بتفسير تراجع مكانة القارة الإفريقية فى السياسة المصرية عما كان عليه الحال فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، إلى تغير شخوص الرؤساء المصريين واختلاف توجهات كلا منهم تجاه القارة. وفى الواقع فإنه رغم ما يبدو من ارتباط ظاهرى يعزز هذا التفسير، فإنه يغفل فى الواقع حقيقة هيكلية ثابتة فى السياسة المصرية منذ ثورة 23 يوليو 1952، ألا وهى تحول إفريقيا لتصبح فضاء لممارسة النفوذ السياسى بأكثر مما باتت تعد شريكا تنمويا. يلاحظ فى هذا السياق، أن نظام يوليو تحول سريعا، بعد استقلال السودان فى يناير 1956، عن مواصلة تبنى التوجه التنموى الذى طالما حكم علاقة الدولة المصرية بجنوبها الإفريقى منذ العصور الفرعونية القديمة، وبات نظام يوليو يتعاطى مع فى القارة الإفريقية بعدها، فى المقام الأول، فضاءً لصراعه السياسى مع القوى الاستعمارية الأوروبية بأكثر منها شريكا تنمويا. ويمكن تفسير ذلك بعاملين: 1- تجنب إتاحة فرصة أمام القوى الاستعمارية لتخريب أى علاقة اعتماد متبادل تنموية وثيقة الوشائج بين مصر ودائرتها الإفريقية بما قد يضر فى التحليل النهائى بالمشروع التنموى لنظام الثورة. ويتجلى ذلك فى اختيار إنشاء مشروع السد العالى داخل حدود الدولة المصرية، ومحاولة التحرر قدر الإمكان من الاعتماد فى توفير احتياجات مصر المائية على تطوير مشروعات مائية كبرى فى دول حوض النيل. 2- تحرير دور مصر الرائد فى دعم تحرر دول القارة واستقلالها، من أى شبهة استغلال يمكن أن تروج فى ظل توسع الدور المصرى فى القارة، وتحاول أن تماهى بينه وبين ما كانت عليه أدوار القوى الاستعمارية فيها. إلا أنه مع تحول أولويات التحالفات السياسية لمصر، عقب نكسة يونيو 1967، والأزمة المالية العنيفة التى واجهتها الدولة المصرية إثرها، تراجعت مكانة إفريقيا على أجندة السياسة المصرية لمصلحة أولويات سياسية أخرى، بينما عزز تخلى الدولة المصرية عن أى توجه تنموى حقيقى مماثل لما كان عليه الحال فى الخمسينيات والستينيات، افتقار السياسة المصرية لأى رؤية تنموية تؤسس علاقات شراكة ومنفعة متبادلة مع القارة الإفريقية. واليوم إذ تقف مصر أمام سؤال التنمية وتحدياتها، فإن أى إجابة كفؤة على هذا السؤال لا يمكنها إغفال أهمية استعادة المكانة التنموية لإفريقيا فى السياسة المصرية من خلال ثلاثة مداخل: أولها، تطوير خريطة دقيقة وشاملة للموارد والفرص الاستثمارية المتاحة فى القارة ودولها والتى يمكنها أن تتكامل مع اى مشروع تنموى مصرى؛ وثانيا، تطوير البنية الأساسية التى تربط مصر بفضائها الجنوبي؛ وأخيرا، إدارة مشروعات التنمية الكبرى التى تتبناها مصر بعدها فضاءات للتكامل مع الدائرة الإفريقية وليست أداة للانغلاق على الذات مجددا.