بأسلوب جلد الذات، هاجمت أحدث رسالة دكتوراه عن أزمة حوض النيل تجاهل مصر والسودان لدول المنبع منذ الستينيات وحتى الآن، داعية إلى ضرورة استيعابها وإدماجها فى عباءة الحوض حتى لا تخرج منها، فالأنظمة الاقتصادية والسياسية الهشة الحاكمة فى هذه الدول تسهل من اختراق بعض القوى الخارجية لها، والتى تلعب دورا فى تأجيج الصراع، لكن لدول المنبع مبرراتها كما رصدت الرسالة من خلال دراسة لمواسم الجفاف التى تعرضت لها هذه الدول منذ الثمانينيات وحتى الآن، وقسمت الرسالة دول المنبع إلى نوعين القابلة للأمر الواقع هى رواندا وبوروندى وإريتريا والكونغو الديمقراطية، وفئة الرفض هى الدول الباقية، واقترحت الحل إما بالحوار أو التحكيم الدولى، ولم تشر بالطبع إلى أى تصعيد عسكرى وتكشف الرسالة الغرض الإسرائيلى من التدخل فى الصراع المائى فى حوض النيل، بتأكيدها أن الدولة العبرية تعانى من عجز مائى خطير تبلور منذ عام ,2000 وتحلم بسده من مياه النيل، خاصة أن هناك العديد من المشروعات الصهيونية التاريخية التى تعود إلى 1903 هدفت إلى توصيل مياه النيل لإسرائيل، وكذلك مشروع «اليشع كالى» الذى ظهر فى ,1974 وتكرر فى أعوام 86 و89 و91 ومشروع «ثورام» عام ,79 وأخيرا استغلال المياه الجوفية فى سيناء، كما تركز إسرائيل على استراتيجية المحاصرة بتطويق السياسة المصرية فى محيطها النيلى لشد أطرافها الإقليمية. كانت هذه هى أبرز المحاور التى تناولتها بالتحليل أحدث رسائل الدكتوراه عن محدودية الموارد المائية والصراع الدولى «دراسة حالة لدول حوض النيل».. وتمت مناقشتها بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. والدراسة «المهمة» التى حصلت عليها «روزاليوسف» توقع خلالها د. محمد سالمان طايع عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية أن تصبح المياه أداة فى الحرب السياسية خلال الفترة المقبلة، وأن العلاقات الدولية بين الدول المشتركة فى المياه بدأت تأخذ شكلا استثنائيا يهدد علاقات حسن الجوار والتعاون الإقليمى. فمنذ 5 سنوات فرضت مشكلة المياه نفسها على دول حوض النيل، وبدأت تنذر بقيام صراعات دولية على المدى القصير ونشوب حروب بشأنها، خاصة فى ظل محدودية الموارد المائية للدول التى تتقاسم الأنهار الدولية المشتركة. وكان هذا الوضع نتيجة طبيعية للأخطاء الاستراتيجية التى وقعت فيها مصر والسودان منذ ستينيات القرن الماضى، حينما أقدمت على توقيع اتفاقية موارد النيل عام 1959 دون إدماج دول المنبع فى هذا الاتفاق، إذ كان على مصر والسودان آنذاك أن تستوعبا مطالب تلك الدول وعدم تجاهلها. وبالتالى ما كنا وصلنا إلى الوضع الراهن الذى اتخذته كل من أثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا بالتوقيع على اتفاقية إطار خاصة لتقسيم المياه متجاوزين التقارير والمواثيق الدولية التى تحذر دول النهر من أن تقوم بأى إجراء يضر بمصالح دولة من دول الحوض، سواء بانتقاص حصتها أو إرغامها على تغيير حصتها من المياه. فوفقا لسالمان، فإن دول حوض النيل «ضعيفة وفقيرة» فى مواردها الاقتصادية، فضلا عن أن أنظمتها السياسية هشة مقارنة بباقى دول القارة الأفريقية، وبالتالى فهى دول مخترقة من بعض القوى الخارجية التى تلعب دورا سلبيا لتأجيج الصراع المائى بين دول المنبع ودول المصب. ولم تتبق إلا وسيلتان اثنتان لتجاوز الموقف الراهن هما: اللجوء إلى التحكيم الدولى كمحاولة لتسوية النزاع بالطرق السلمية من خلال محكمة العدل الدولية أو اللجوء إلى فض النزاع بالطرق الودية عبر تدشين مشروعات تنموية عاجلة تحقق مصالح مشتركة للأطراف النيلية. من منطلق تحليل زمنى للفترة الممتدة ما بين عامى 1980 و2005 رصدت الدراسة ظهور موجات جفاف شديدة لم يسبق لها مثيل فى مناطق وسط أفريقيا، ومنابع حوض النيل. وقد ترتب على ذلك انخفاض معدل الأمطار السنوية فى منابع الحوض، مما أثر سلبا على كميات المياه المتدفقة طبيعيا إلى دولتى المصب والمجرى «مصر والسودان»، حيث كان حوض النيل يتلقى سنويا كميات من الأمطار التى تصل إلى ما يزيد على 1600 مليار متر مكعب، رغم أن الإيراد السنوى لنهر النيل لا يزيد على 84 مليار متر مكعب فقط، تحصل منها مصر على حصة ثابتة ومستقرة تبلغ 5,55 مليار متر مكعب، فى حين تحصل السودان على 5,18 مليار متر مكعب. وأشارت الدراسة إلى أن هذه الأنصبة المائية كانت إحدى الركائز المهمة للأمن المائى المصرى بصفة خاصة، وإحدى دعائم الأمن القومى عامة، حيث أصبحت محل رفض وتشكيك من جانب بعض دول المنابع خلال الآونة الأخيرة، بل تزايدت مطالب هذه الدول بتعديل الأطر القانونية الحاكمة والمنظمة لمياه النيل، لكن حرصا على استدامة علاقات التعاون بين مصر والدول النيلية الأخرى دخلت فى عملية تفاوضية منذ عام 2001 بهدف التوصل إلى اتفاقية إطارية تنظم إدارة الموارد المائية فى الحوض من مختلف الأوجه. وحددت الدراسة مؤشرات الصراع المائى الدولى فى 3 محاور رئيسية، أولها الصراع حول اتفاقيات المياه فى النظام الإقليمى المائى، وثانيها الصراع حول تقاسم المياه فى النظام الإقليمى المائى، وثالثها الصراع حول شرط الإخطار المسبق عند تنفيذ أية مشروعات مائية فى النظام الإقليمى المائى. فإجمالا.. هناك 3 قضايا خلافية حالت دون التقاء وجهات نظر تلك الدول مع دولتى المنصب «مصر والسودان»، وظلت تلك القضايا تشغل حيزا من الشد والجذب، والقبول والرفض. والقضية الأولى تدور حول المواقف من مشروعية اتفاقيات مياه النيل السابقة، فبالنسبة لدول منابع النيل هناك فئتان رئيسيتان: فئة القبول بالأمر الواقع ويندرج تحتها كل من رواندا وبوروندى وإريتريا والكونغو الديمقراطية، وهى الدول التى تميل إلى تبنى مواقف غير تصعيدية بشأن الصراع المائى فى حوض النيل أو مشروعية اتفاقيات مياه النيل، أما الفئة الثانية، فهى «فئة الرفض»، ويتمحور موقفها فى رفض الاتفاقيات السابقة والمطالبة بإسقاطها نظرا لكونها أبرمت فى الحقب الاستعمارية، ومن ثم تدعو إلى بطلان تلك الاتفاقيات واستبدالها بأخرى جديدة. لكن دولتى المصب والمجرى «مصر والسودان» تؤكدان على مشروعية تلك الاتفاقات استنادا إلى مبدأين رئيسيين فى القانون الدولى العام، هما: مبدأ التوارث الدولى للمعاهدات، ومبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة. أما القضية الخلافية الثانية فتتمثل فى الموقف من تقاسم مياه النيل.. وذهبت الدراسة لنتيجة مفادها أنه على الرغم من وجود ما يزيد على 10 اتفاقيات مائية فى حوض النيل، إلا أنها لم تكن جماعية، وإنما اتفاقيات ثنائية وأحيانا ثلاثية، ومن ثم فإن النظام الإقليمى المائى لدول حوض النيل يعانى من غياب الإطار القانونى الذى يحظى بقبول جميع الدول النيلية، كما يعانى ذلك النظام الإقليمى من غياب الإطار التنظيمى المؤسسى. وأوضحت الدراسة أن الصراع حول مدى إلزام دول المنابع بالإخطار المسبق عند القيام بأى مشروعات مائية، سواء كانت قطرية أو فردية أو حتى جماعية على مجرى الحوض المائى للنهر، حيث أصرت مصر والسودان على ضرورة إعمال شرط الإخطار المسبق بشأن جميع المشروعات المائية فى حوض نهر النيل، وذلك إعمالا لمبدأ أصيل من مبادئ القانون الدولى العام أقره العرف الدولى، ونصت عليه الاتفاقيات الدولية، وهو مبدأ عدم التسبب فى الضرر. واستنادا إلى هذا المبدأ كانت مصر ملتزمة بتطبيق هذا الشرط، وإن أبدت دول المنابع النيلية إصرارا على عدم التقيد بالإخطار المسبق كشرط سابق عن أى مشروعات مائية تزمع إنشاءها. انطلاقا من قناعتها بأن الالتزام بهذا الشرط يعنى تقييدا لحريتها وانتقاصا لسيادتها، كما أنه يعوق مشروعاتها التنموية. وبحسب الدراسة، فإن دول المنابع تنطلق من مسلمات تاريخية يصعب التحرك خارجها أو التنازل عنها أو التفريط فيها، وهو ما ينطبق إلى حد بعيد على السلوك التفاوضى المصرى والسودانى، الأمر الذى قد يجعل من تلك المفاوضات كما لو كانت مباراة «صفرية العائد»! فكان - وفقا لسالمان - أن لعبت إسرائيل دورا مؤثرا فى مجريات الصراع المائى داخل النظام الإقليمى لحوض نهر النيل لتنفيذ استراتيجيتين مستمرتين ومتزامنتين: الأولى هى المكانة المحورية للمياه فى الفكر الاستراتيجى الإسرائيلى.. وهو ما عكسته التصريحات الأولى لمؤسسى الدولة العبرية، أما المحور الثانى فيتمثل فى حالة الشح المائى الذى تعانى منه إسرائيل. ورغم التعديات الإسرائيلية على المياه العربية، فإنها بدأت تعانى منذ بداية عام 2000 من عجز فى ميزانها المائى، حيث يتصور خبراء المياه الإسرائيليون أن هذا العجز سيتصاعد خلال العقود الأولى منذ القرن الحادى والعشرين، خاصة فى ضوء تزايد معدلات الزيادة الطبيعية للسكان وتزايد معدلات الهجرة اليهودية. لذلك وضع الكيان العبرى عددا من المخططات، منها استراتيجية «المحاصصة»، أى التفكير فى مشروعات مائية تستهدف حصول إسرائيل على حصة مائية ثابتة من مياه النيل ومن أمثلتها مشروع «هرتزل» عام 1903 لتوصيل مياه النيل إلى إسرائيل، وكذلك مشروع «إليشع كالى» عام 1974 الذى تكرر طرحه فى أعوام 1986 و1989 و,1991 ومشروع «يؤر» عام ,1979 وأخيرا مشروع استغلال المياه الجوفية فى سيناء! أما المخطط الثانى فهو «استراتيجية المحاصرة» أى تطويق السياسة المصرية فى محيط دائرتها النيلية، بما يعمل على شد أطراف مصر إقليميا! وكما تقول الدراسة فإن هذين المخططين يدفعان إسرائيل إلى القيام بما يحقق أهدافها ومصالحها فى المنطقة الرامية إلى الحصول على مياه من نهر النيل أو استخدام المياه كورقة ضغط ضد مصر والسودان. وخلصت الدراسة إلى أن الدور المائى لإسرائيل فى حوض النيل يعتبر محفزا على الصراع المائى بعكس الولاياتالمتحدةالأمريكية التى ليس لها أى أطماع أو طموحات مائية فى نهر النيل، ولقد تم الاستدلال على ذلك من خلال دراسة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه حوض النيل مع الاطلاع على آراء عدد كبير من الوزارات والهيئات والمؤسسات المعنية بصنع السياسة المائية للولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط. أما الدور الثانى فيتمثل فى العمل على إعادة رسم الخريطة «الجيوبولتيكية» للسودان، وذلك بتشكيل «سودان جديد»، حيث تسعى الولاياتالمتحدة خاصة منذ وصول إدارة «بوش» للحكم عام ,2000 وما رافقها من تزايد نفوذ التيار الدينى المحافظ «الإنجيليين الجدد»، حيث أخذ هؤلاء على عاتقهم العمل على تمكين جنوب السودان من تقرير مصيره، إلى تعزيز التوجهات الانفصالية فى السودان. وإذا ما حدث هذا الانفصال ستكون له آثار بالغة الخطورة على الأمن المائى المصرى والسودانى، بل على الأمن القومى لكلتا الدولتين.. وهو ما تؤكد عليه الحقائق الطبوغرافية والهيدروليكية، فضلا عن قناعات مسئولين وخبراء فى الشأن المائى لدول مصر والسودان وأثيوبيا، وكذلك خبراء المياه فى البنك الدولى واليونسكو ومركز البيئة والتنمية للإقليم العربى وأوروبا. لذلك ليس من المستبعد أن تتحالف كل من إسرائيل أو الولاياتالمتحدة مع دولة أو أكثر من دول حوض النيل ضد مصر والسودان.. وعندئذ تتزايد احتمالات تصاعد الصراع المائى استنادا إلى نظرية «تحول القوة»، فضلا عن أن هناك دولا أخرى مثل إيطاليا وهولندا واليابان وكندا لعبت أدوارا مهمة فى تمويل المشروعات المائية التعاونية المقترحة فى إطار مبادرة حوض النيل.. ومن ثم قامت بتشكيل «اتحاد التمويل الدولى للتعاون فى النيل»، الأمر الذى ينذر بمزيد من التحديات إذا ما تزايد دور تلك المؤسسات والقوى الكبرى فى هذا الشأن، إذا إن هذا من شأنه تفاقم حجم الصراع بالمنطقة بما ينذر بمواجهات إقليمية وسياسية تفتقر إلى الليونة.