جدول امتحانات خامسة ابتدائي الترم الثاني 2025 بالقليوبية «المواد المضافة للمجموع»    الموافقة على الإعلان عن التعاقد لشغل عدة وظائف بجامعة أسيوط الأهلية (تفاصيل)    تنمية المشروعات ضخ 920 مليون جنيه لتمويل مشروعات شباب دمياط في 10 سنوات    مصلحة الضرائب: 1.5 مليار وثيقة إلكترونية على منظومة الفاتورة الإلكترونية حتى الآن    وزير المالية: الاقتصاد المصري يتحرك بخطى جيدة.. ويوفر فرصًا استثمارية كبيرة    إعلام عبري: تصريحات نتنياهو بشأن استقرار العلاقات مع واشنطن لا تعكس الواقع    القوات المصرية تشارك في عروض احتفالات الذكرى ال80 لعيد النصر بموسكو    الجيش الأوكراني: تصدينا خلال ال24 ساعة الماضية لهجمات روسية بمسيرات وصواريخ    ديربي تحصيل حاصل.. مباريات الجولة الأخيرة من الدوري المصري للسيدات    فاركو يواجه بتروجت لتحسين الوضع في الدوري    منتخب ناشئين اليد يواجه كرواتيا وديًا استعدادًا للمونديال    جثة الغوصة تثير الذعر في قنا.. والأمن يتحرك لحل اللغز    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني للطلبة المصريين في الخارج غدا    تحقيقات موسعة في العثور على جثة متعفنة داخل منزل بالحوامدية    عمرو دياب: ألبومي الجديد بعد عيد الأضحى    مروان موسى ل«أجمد 7» ألبومى الجديد 23 أغنية..ويعبر عن حياتي بعد فقدان والدتي    السقا وفهمي يواصلان تصوير "أحمد وأحمد".. ثنائي منتظر يجمع بين الكوميديا والأكشن    حفيدة الشيخ محمد رفعت: جدى كان شخص زاهد يميل للبسطاء ومحب للقرآن الكريم    عودة الراعي، البابا تواضروس يحمل إلى القاهرة رسائل سلام من قلب أوروبا    إصابة 5 أشخاص بحالات اختناق بينهم 3 اطفال في حريق منزل بالقليوبية    اعرف أسعار الأسماك بأسواق كفر الشيخ اليوم... البلاميطا ب100 جنيه    لقاء خارج عن المألوف بين ترامب ووزير إسرائيلي يتجاوز نتنياهو    اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    بيل جيتس يخطط للتبرع بكل ثروته البالغة نحو 200 مليار دولار    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    طريقة عمل العجة المقلية، أكلة شعبية لذيذة وسريعة التحضير    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    ستحدث أزمة لتعدد النجوم.. دويدار يفاجئ لاعبي الأهلي بهذا التصريح    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    أحمد داش: الجيل الجديد بياخد فرص حقيقية.. وده تطور طبيعي في الفن    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    الخارجية الأمريكية: لا علاقة لصفقة المعادن بمفاوضات التسوية الأوكرانية    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    حبس المتهمين بسرقة كابلات كهربائية بالطريق العام بمنشأة ناصر    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    الهباش ينفي ما نشرته «صفحات صفراء» عن خلافات فلسطينية مع الأزهر الشريف    تسلا تضيف موديل «Y» بنظام دفع خلفي بسعر يبدأ من 46.630 دولارًا    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    كيفية استخراج كعب العمل أونلاين والأوراق المطلوبة    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمارة «المنايفة».. الشاهد الصامت على فض اعتصام «رابعة العدوية»
نشر في التحرير يوم 14 - 08 - 2015

الساعة الرابعة صباحا، السكون يعم الميدان الذى لم يعد ممتلئا كما كان نهاره الصاخب. خيام أغلقت على أصحابها تحاول عبثا النوم، وشفاة ما زالت تتلو أذكار الصباح خشية النوم وحذر الموت القريب، فقد بات الجميع ليلتهم وهم يعرفون أنه اليوم الأخير، ربما لم تعلن الميكروفونات الخبر، ولم يخرج القادة على المنصة ليعلنوا النبأ، لكنه السر الذى تسرب فى هدوء إلى المكان، فمن كان منهم على العهد فقد بقى، ومن لم يكن فقد غادر غير مأسوف عليه، وبقى طارق حارس «عمارة المنايفة» أو ما كان يسمى «برج مكة المكرمة».
الأرق هذه الليلة لم يكن كمثيله فى معظم الليالى، فقد لاحظ طارق خلو الميدان ممن ملؤوه طيلة 48 يوما. شائعات تتردد كل يوم عن اقتراب اللحظة الحاسمة، «موعد الفض صار قريبا»، هكذا أنبأته الأوراق المتساقطة من الطائرات الحربية المحلقة فوق الميدان كل ليلة. لم يهتم طارق بالورق المتساقط، ولم يلفت انتباهه يوما ليقرأه، فهو ليس له، ومن يأمرون بإخلاء الميدان يعلمون جيدا أنه «حارس العمارة» الذى ائتمنه عليها صاحبها ولم يفرط فى الأمانة.
لم يكن بيده حيلة فى الأمر فقد استأذنوه فى أواخر شهر يونيو لأداء صلاة الجمعة بمدخل العمارة ومن يومها لم يخرجوا، استمرت الصلاة 48 يوما كاملة وامتلأ المدخل والدور الأول بالرجال وبقى الثانى مغلقا بالطوب المتراص على الحريم. مئات كان يراهم كل يوم يدخلون ويخرجون فى عمارة «تحت الإنشاء»، ثبتت أشكالهم وتغيرت ملامحها، ذهبت ثرثرته مع عمال العمارة و«كوباية الشاى» تؤنس لياليهم فى انتظار بناء تأخر أربعة أعوام، فأحوال البلد والثورة و«وقف الحال» كانت سببا فى تعطيل الانتهاء من العمارة وتشطيبها حتى كُتب للعمارة أن تشهد آخر الفصول، وأن تشهد جدرانها على يوم سيبقى فى ذاكرة طارق ما قُدر له أن يعيش وبدأ كلامه بمقولته: «اللى شفته يوم الأربعاء 14-8 لا يمكن أنساه عمرى».
كل الدلائل كانت توحى أنها الليلة الأخيرة، فقد ذهب باعة الشاى، وخرجوا من الميدان، كما لم يعتادوا كل ليلة، وهؤلاء الغلابة الذين امتلأت بهم أرصفة الميدان كى يضمنوا وجبتهم اليومية لم يكن لهم أثر بعد انتصاف ليل الثلاثاء هذا ما أكده طارق بنَص كلامه: «الناس كانت عارفة وكداب اللى يقول غير كده بدليل إن الجميع غادر وبقى الإخوان»، هكذا أكد طارق، الذى لم يفلح فى التغلب على ذاكرته، فهى ما زالت قوية، مشاهد عديدة لا تزال راسخة فى جُعبته لكنه «ردم عليها» كما يفعل أهله فى الصعيد مع أمور لم يعد يجدى معها حلول موضحًا: «محَّرت الخرسانة على قلبى من جديد وباشطب دلوقتى»، هكذا وصف طارق محاولاته للتخلص مما علق بذاكرته من مشاهد قاسية.
ساعتان هى كل المدة التى قضاها طارق فى الميدان وقت فضه قبل أن يستطيع الهرب دون أن تخترقه رصاصة أو تصيبه قنبلة غاز تقتله خنقا، واصفًا ليلتها: «الليلة كانت حارة والنوم لم يكن سهلا، نعست بالعافية وصحيت مفزوع على رائحة الغاز التى ملأت المكان والناس بتعافر لآخر نفس».
البرج ذو العشرة أدوار استطاع طارق أن يحمى طوابقه الثمانية طول مدة الاعتصام ليحتل الإخوان طابقين فى الأسفل فقط، ولكن فى اليوم الموعود كانت الطوابق العشرة لا تتسع للمتزاحمين على السلالم فرارا من الموت المحدق، لا يعرفون إلى أين الاتجاه ولا إلى أين ستأخذهم تلك الطوابق وماذا سيفعلون حين ينتهى بهم ذلك السلم، «السقالة» التى أنقذت طارق ورفاقه من الصعايدة حارسِى العمارة لم تستطع أن تنقذ الجميع مؤكدا: «إحنا عمال وواخدين على طلوع السقالة لكن همّ فيه منهم عرفوا ونطوا معانا ومنهم اللى وقع.. هربوا من الموت للموت».
«للموت طريق واحد كان فى رابعة» هذا هو الوصف الذى ينطبق على مستوطنى «عمارة المنايفة»، تجمعوا من أرجاء المحروسة فسكنوها، كان معظمهم لا يعرف الآخر فالجميع «إخوة فى الله» و«الكل للواحد والواحد للكل»، قرابة الشهرين جمعت أناسا من قنا وأسيوط وسوهاج والمنيا ليجاوروا آخرين من «المنوفية»، وكالعادة رغم خلو العمارة الشهيرة فى ميدان رابعة من «المنايفة» فإنهم فرضوا سطوتهم بتلك الخيمة الملاصقة لها فحملت العمارة جنسيتهم وصارت «عمارة المنايفة»، هدفًا واحدًا وطعامًا وملبسًا وسريرًا واحدًا، تجمعهم الصلاة ولا تفرقهم المسيرة، ثلاثون يوما كان الصوم والتظاهر جهادهم نهارا والتراويح والدعاء على «الانقلابيين» كما يحلو لهم تسميتهم، جهادهم ليلا.
كان الجميع يعلم أنه ربما لن يعود، هكذا كان «أبو ثائر» الشاب الذى حمل كُنية جهادية، لم ينتمِ يوما إلى الجماعة لكنه شُغِل بالشيخ «حازم أبو إسماعيل» فصار منذ ظهوره فى انتخابات رئاسة الجمهورية إمامه وقائده، وصار ثائر من أوائل من حملوا اللقب «حازمون» ودافعوا عنه، يقول «أبو ثائر»: «الشيخ حازم هو الوحيد اللى كان شايف الصورة صح، وكانت كل كلماته دقيقة من أول يوم فى ثورة يناير لحد 30 يونيو وبعدها 3 يوليو.. شاف اللى ماحدش فينا شافه وعرف وتنبأ باللى حصل».
لم يكن الدفاع عن مرسى والرغبة فى عودته لدى «أبو ثائر» إلا رغبة فى انتصار الإسلام، ورفضه مغادرة الميدان حين استشعر لحظة الفض كانت رغبة حقيقة فى نيل الشهادة وإعلاء كلمة الله، موضحًا: «مكان إقامتى كان عمارة المنايفة وكان معايا زوج أختى وفى نفس الليلة كنا ننتوى مغادرة الميدان إلى البلد لقضاء بضعة أشياء ثم العودة، وسمعت عن احتمالية الفض فى هذه الليلة، ولكنى اعتقدت أن الأمر سيمر كغيرها من الليالى ثم ذهب زوج أختى للاستفسار والتأكد من الأمر وخيرنى بين البقاء معه أو الرحيل وقررت البقاء».
خمس ساعات قضاها «أبو ثائر» فى انتظار ساعة الفض. لم يكن النوم يسيرا هذه الليلة فقضى وقته متجولا فى الميدان، يتابع وقريبه استعدادات التأمين على المداخل والمخارج، الوقت يمر ببطء، انتهى الشباب من صلاة الفجر، بدأ الشروق يتخلل الميدان وشمس الصباح الخجلة تزيح عتمة الليل، يذهب «أبو ثائر» وصديق له للتجول فى محيط رابعة العدوية، تبدو الحال طبيعية، الكل فى مكانه كما العادة حتى سائقى الميكروباصات ينقلون الراغبين فى الخروج من الاعتصام فى مشهد متكرر كل يوم، يعود الشاب الريفى سريعا إلى المنصة ليجدها تشتعل بالهتاف وفوقها قيادات الاعتصام.
«حائط صد الميدان»، هكذا وصفوا برج «مكة المكرمة» حين كان يسمى «عمارة المنايفة»، اسم أطلقه عليها «أبو ثائر» وأصدقاؤه، ورآه طارق الحارس بعد دقائق من الفض فحينما عاد «أبو ثائر» إلى العمارة ليكون مع الشباب الذين يعرفونه ويعرفهم فإن حدث له مكروه يعرف الجميع ما حدث له، كان طارق كذلك يتحدث هاتفيا مع الحاج عادل «مقاول العمارة»: «انجُ يا بنى بحياتك تولع العمارة سيبها واهرب»، فى لحظة واحدة تقابلت الوجوه، طارق هاربا من فوق سطح العمارة وثائر محتميا بجدرانها كى يذود عن أصدقاء الميدان ونساء العمارة وأطفالها، لم يخطر على قلب «ثائر» الهروب من الميدان والتخلى عن مبدئه، ولم يستطع طارق أن يخاطر بحياته هذه المرة من أجل العمارة، فهذه المرة الموت القادم من كل اتجاه، لن يكتفى بالعصى والشوم كى يستطيع بجرأة الصعيدى أن يواجهها لكنه موت آخر لم يرَه ولم يعتَده، رصاصة واحدة مرت بجانبه فاخترقت الخرسانة لتفتت الحديد كانت كفيلة بأن يستوعب أن الأمر لا يحتمل الهزل وأن البقاء هنا صار ضربا من الجنون «فى دقائق كانت رائحة الموت تملأ الدنيا والجثث منثورة فى كل شبر.. كنا نمر من فوقها ونحن لا نعلم أنها جثث» هذا بعض ما يتذكره طارق عن يوم الفض.
الوصول إلى السطح كان مبتغى طارق الذى حققه بالصعود على السقالة ومنها إلى العمائر المجاورة حتى استطاع الوصول إلى عمارة شقيقه حيث اكتشف فجأة أنه قد نسى أن يأخذ متعلقاته الشخصية «بطاقتى والتليفون وحتى الفلوس نسيت كل شىء وجريت، لم أكن أعرف كيف سأصل إلى بلدى»، فى ذلك الوقت كان «أبو ثائر» يواجه الموت فى كل لحظة لكن الموت أبى الاقتراب منه فترك له صورا لا تمحوها الأيام.
بعد وقت قليل قطع طارق نفس المسافة لكنها على الأرض هذه المرة، لم يجد «سقالة» تسير فى الاتجاه المعاكس فعاد سيرا على الأقدام حينا وانبطاحا على الأرض حينا آخر، لكن العمارة التى تركها منذ أقل من ساعة لم تكن كتلك التى وجدها «السدادات الحديد اللى كانت قدام الباب والمخزن خدوها عشان تتعمل سواتر فوق وشكارات الرمل والأسمنت خدوها عشان تكون سواتر من الرصاص وده غير الخشب اللى كان فى المخزن واتحرق من القنابل»، الجثث التى رآها طارق فى خروجه الأول تملأ الشارع كانت هذه المرة فى استقباله فى مدخل العمارة وفى أدوارها العشر جثث نساء ورجال وأطفال.
دماء اختلطت بالرمال وجثث حفرت مكانها على سلم العمارة فبات يتحسس موضعها فى كل مرة صعودا وهبوطا عليها، «على قد ما كنت متغاظ من الإخوان عشان وقفة حال العمال والعمارة، لكن فى نفس الوقت ما كنتش فاكر إن هتبقى هى دى النهاية»، كذلك ثائر، لم يتوقع أن تكون هذه هى النهاية، فهذه اللحظة التى انتظرها طويلا، اعتقد أن الأمر لن يكون سهلا هكذا، وأن هذه الخوذات والكمامات والعصى ستستطيع حمايتهم ولو قليلا، «كنا نضحك حينما نسمع من يحكون عن الأسلحة الكيماوية بالميدان وعن أسلحة المنصة وصناديق القنابل والذخيرة ويا ليتنا فعلنا».
«خلا الميدان من الأسلحة فى صباح يوم الفض»، هكذا أكد طارق شاهد العيان الذى نجا بعمره بعد ساعات قليلة من بدء الفض، «عمرى ما شفت فرد خرطوش حتى فى الاعتصام ويوم الفض ماكنش معاهم غير العصى والحجارة والمولوتوف، لكن سمعت أن فى سلاح فى أماكن تانية فى الميدان لكن ماشفتش بعينى».
غادر طارق وثائر «عمارة المنايفة» كل فى الاتجاه الذى أراده فى البداية فودعها طارق إلى بلدته فى المنيا التى استمر بها قرابة الأسبوع قابعا فى المنزل رافضا الخروج منه «كانت وقتها المنيا بتشتعل واقتحامات المراكز فى العدوة ومطاى قالبة الدنيا، وكل بيت كان بيخرج منه راجل يحمى الكنيسة كل 3 ساعات، لكن أنا ما رضيتش أروح كان كفاية عليا اللى شفته فى مصر ماكنتش مستحمل أشوف حاجة تانية»، فى المستشفى الميدانى الواقع بمبانى مسجد رابعة العدوية كان «ثائر» قد وجد طريق خروجه من العمارة بعد ساعات من بدء الفض، خرج يطمئن على الجميع، لم يستطع أن يغادر إلى مسجد رابعة حيث كان الضرب على أشده هناك «شفت الناس منبطحة على بطنها عشان تعدى فقررت إنى ألف من الخلف وأذهب إلى المستشفى أفضل» مسافة قليلة لا تتعدى الخمس دقائق بين العمارة والمستشفى الميدانى قطعها «أبو ثائر» فى نصف ساعة، خطى متمهلة تحسب عدد الجثث على الطريق وتقرأ الشهادتين على كل روح مرت بها، «الوضع فى المستشفى كان صعبًا والخروج من الميدان كان أصعب؛ لأن حتى الممرات الآمنة لم تكن آمنة بالفعل ومن استطاع الخروج من الميدان فعلها فى الساعات الأولى من الصباح، لأنه بعد 10 الصبح الميدان اتقفل خالص علينا ولم تعد هناك نية لخروجنا منه»، فى المستشفى لم يختلف الأمر عن بقية الأماكن، فقد امتلأ عن آخره بالجثث والدماء كانت تسيل حتى تصل إلى الشارع.
اختفى المشهد من الشاشات عقب ضرب عربة البث التليفزيونى المسروقة إبان الاعتصام، لكن ما حدث عقب ذلك بقى محفورا على شاشة ذاكرة «أبو ثائر» لم تستطع 730 يوما أن تمحوها، «الساعة 6 كانت نهاية الاعتصام بالعمارة فقد اقتحمتها قوات الشرطة من أسفل وقوات الجيش من أعلى هبوطا من الطائرات حتى إنى كنت أرى الشباب يتساقطون من سطح العمارة هروبا من القوات، وحدثت أكبر مجزرة بالميدان فلم يخرج أحد منها حيا ومن بقى فقد تم القبض عليه» هذه المشاهد بقيت عالقة بذاكرته ولم تمحها الأيام.
انتهى اليوم واستطاع «أبو ثائر» مع زوج أخته الخروج من الشوارع الجانبية خلف مسجد رابعة، التى فتحتها قوات الجيش لمن يريد الخروج، مضيفًا: «خرجنا بسيارة زوج أختى حاملين معنا أحد أصدقائنا شهيدا، ووقتها قررنا أننا لن نعود إلى منزلنا، واستمررنا موجودين بالقاهرة حتى أحداث رمسيس».
آثار الرصاص لا تزال موجودة رغم محاولات الطمس الظاهرة على جدران «عمارة المنايفة»، التى استطاع أصحابها أن يغيروا معالمها وشارفوا على الانتهاء منها رغم الخسائر التى تكبدوها، حسب كلام الحاج عادل، مقاول العمارة: «خسائرنا تعدت المليون جنيه لصاحب العمارة فقط دون حساب خسائرى كمقاول التى تعدت 350 ألفًا»، الحاج عادل الذى فوجئ يوم الخميس ثانى أيام الفض بلودر الجيش يرفع الشدة المعدنية التى وضعها على العمارة ضمن مخلفات الفض، ذهب لتوثيق خسائره حينها بمحضر رسمى ولكن بلا أمل «الحمد لله على كل شىء، لكن للأمانة كل خسائرنا لم تكن بسبب الإخوان ومعظم السرقات التى حدثت بعد ذلك من بلطجية الهجانة والكيلو 4 ونص هى اللى كان لها أكبر الأثر فى الخسارة المادية، لكن ما فعله الإخوان لا يتجاوز التلفيات الصغيرة بالمقارنة بما حدث»، غرامات التأخير التى تكبدها الحاج منير البندراى، صاحب العمارة، بالإضافة لتكاليف خسائر الخرسانة وأسلاك الكهرباء والأخشاب والحدايد التى تم إتلافها أو سرقتها دفعت الحاج منير إلى عمل محضر آخر بحثا عن تعويض مناسب مؤكدا: «مع الأسف إحنا شيلنا كل الخراب ودفعنا تمنه بس الحمد لله على كل حال».
500 جثة، رقم مهول لم يكن يستطيع طارق أن يصدقه لو نشرته كل الشاشات الفضائية، لكنه حين يخرج من فم أحد ضباط الميدان بعد الفض فإن الرقم يكون مصدقًا بلا شك، يقول طارق: «عندما عدتُ وبعد ما الضباط اطمأنوا لى تحدثوا أمامى عن العمارة وما جرى فيها، وتحدثوا عن الرقم الحقيقى للقتلى الذين سقطوا فيها».
استعادت العمارة وضعها القديم وعاد طارق لصنع الشاى كما كان يفعل وقت الاعتصام، ولكن هذه المرة لم يكن للمعتصمين بل صار لجنود الأمن المركزى وضباط الجيش الذين استمروا فى رابعة حتى تم افتتاحها من جديد، ثم رحلوا وبدأت زيارتهم الموسمية للميدان تعيد الذكرى لطارق فى نفس الوقت من كل عام: «أنا باسترزق مش مهم من مين بس الشهادة لله رزق الإخوان كان واسع وكنت بابيع الشاى بأعلى سعر لكن المجندين غلابة ببيع لهم الكوباية بجنيه».
مر عامان ولم يستطع «طارق وثائر» أن ينسيا عمارة المنايفة، عاد حارسها إليها بينما قرر «أبو ثائر» أن لا تطأ قدماه أرض رابعة مرة أخرى، أذيلت الصورة الضخمة للرئيس المعزول من واجهة البرج، لكن لم يستطع الاسم الجديد «برج مكة المكرمة» أن يمحو الاسم القديم فصارت العمارة ل«المنايفة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.