انفضت الاحتفالات بافتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة، وبغض النظر عن المسميات، قناة أو تفريعة أو ترعة، فقد كان واضحًا أن الأغلبية لم تكلف نفسها عناء القراءة والسؤال قبل ارتفاع أصواتها بالمديح أو التهكم. قررت وسط هذا الصخب أن أبذل بعض الوقت فى قراءة وتحليل الأرقام المعلنة بعيدًا عن أية انحيازات مسبقة. الاستهزاء ووصفه بالترعة غير منصف، لأنه مشروع كبير بالمقاييس الهندسية تم إنجازه فى وقت قياسى بالفعل. وعلى الجانب الآخر، التعليقات المؤيدة عاطفيةٌ يشوبها الكثير من المبالغة والمغالطات. تبارى الكثيرون فى وصف الإنجاز العظيم بالملحمة وبأنه ظاهرة كونية تغير وجه العالم -بالفعل وصفه أحدهم هكذا- وبأنه يماثل معجزة بناء الأهرامات وشبيه بحفر الخندق مع الرسول عليه الصلاة والسلام. هجوم ضارٍ على كل من يجرؤ أن يتساءل عن جدوى المشروع ونعته بأنه غير وطنى. المشروع عبارة عن تفريعة بطول 35 كم، بالإضافة إلى تعميق وتوسيع الممرات الحالية فى البحيرات المرة بطول 30 كم وتوسعة وتعميق تفريعة البلاح بطول 7 كم. إذن هى بالفعل تفريعة وليست قناة جديدة. لماذا لا نسمى الأمور بمسمياتها؟ تم قبل ذلك حفر 6 تفريعات للقناة لتسمح بانتظار أو مرور السفن فى الاتجاه المعاكس فى 1955 و1980. فما الذى يستوجب كل هذا الاحتفاء بإنجاز تفريعة أنجزنا 6 تفريعات مثلها بدون هذه الضجة؟ الهدف المعلن للمشروع هو تقليل وقت انتظار السفن من 18 إلى 11 ساعة، وزيادة عدد السفن المارة بالقناة من 49 سفينة فى 2014 إلى 97 فى 2023، وزيادة الإيرادات من 5.3 مليار دولار إلى 13.226 فى 2023 (259%). هل تقليل ساعات الانتظار ب7 ساعات يمثل قيمة مضافة عن الخيار الآخر وهو المرور برأس الرجاء الصالح الذى يستغرق 15 يوما؟ أم أننا نقدم للعالم هدية غير مرغوب فيها؟ متوسط عدد السفن التى تمر بالقناة يوميا 47 سفينة فى عام 2014، بزيادة قدرها 3.3% عن عام 2013 وهو عدد مرتبط بحركة التجارة العالمية ونموها. فى أكثر التقديرات تفاؤلا، مع أننا تعلمنا عند عمل دراسات الجدوى أن نأخذ بأقل التقديرات، إذا زاد عدد السفن المارة بنفس معدل العام السابق حتى عام 2023 لأصبح عدد السفن المارة بالقناة 60 سفينة يوميا، وعليه فإن القناة بتفريعاتها السابقة تفى بالغرض وأكثر حتى عام 2023، حيث إنها كانت مؤهلة قبل التفريعة الجديدة لمرور 76 سفينة يوميا. إذن لماذا أسرعنا فى عمل تفريعة جديدة فى وجود فائض تشغيلى حتى عام 2023؟ الزيادة المتوقعة فى الإيرادات بنسبة 259% تقوم على فرضية تضاعف عدد السفن المارة بالقناة خلال ال9 سنوات القادمة. يتطلب تحقيق هذه الأرقام نموًّا فى حركة التجارة العالمية بمعدل ثابت 9% سنويا، فى حين أنه فى الواقع شهد تراجعًا خلال الفترة من 2007 إلى 2015 وبلغ معدل نموه 3% فقط. ما الأسباب إذن وراء هذه الطفرة غير النمطية وغير المسبوقة فى نمو حركة التجارة العالمية التى تفترضها الدراسة؟ تكلفة الاحتفالات بافتتاح التفريعة الجديدة المعلنة 30 مليون دولار، بدأت بحشد إعلامى، يرفع شعار # مصر- تفرح، وإعلانات مدفوعة الأجر بالملايين فى المجلات والصحف الأجنبية وشوارع أمريكا بمبالغات مثل «مصر تغير خريطة العالم» وقناة السويس الجديدة.. هدية مصر للعالم». كما تقرر يوم الافتتاح إجازة رسمية إمعانًا فى إهدار الموارد. وأرجو أن لا يبرر أحد هذا الإسراف بأنه تبرع من رجال الأعمال. ألم يكن أجدى أن يتم الاستثمار فى مشروع تنمية محور قناة السويس الذى كان سيجعل من القناة منطقة خدمات لوجيستية للسفن المارة تقدم قيمة مضافة وتخلق فرص عمل للملايين وتنعش منطقة القناة بالكامل اقتصاديا بدلا من كوننا كمسرية نقوم بتحصيل تعريفة المرور فقط؟ هذا المشروع كان له عائد أسرع وأضمن وأكبر وجدوى اقتصادية تمت دراستها باستفاضة سابقا بدلا من مشروع التفريعة الذى فرض علينا الفرحة به دون أن نفهم لماذا!