هذه رواية شخصيات بامتياز، رغم كثرة تفصيلاتها وأحداثها، جدارية ضخمة لنماذج إنسانية مأزومة، وخريطة اجتماعية تشهد على فترة فاصلة انتهت بتحولات كبرى، وكأننا أمام مرايا عملاقة نرى فيها صورة الداخل والخارج معا، تكشف ولا تستر، وتقول ولا تصمت. تصل قوة شخوص الرواية هنا إلى درجة أنك تستطيع أن تصفها بأنها منحوتة وليست مرسومة، يمكنك أن تلمس تضاريسها ومعالمها، وأن تسمع أصواتها، وأن ترى حضورها الطاغى، إنها ليست مجرد خطوط على الورق، تستكملها بخيالك، وتملأ فراغاتها، وتضيف إليها ألوانها. أتحدث عن رواية «أن تحبك جيهان» الضخمة لمكاوى سعيد، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية فى نحو 700 صفحة، يوحى العنوان بمسحة رومانسية حاضرة بالفعل، لكن الرواية أكبر من ذلك بكثير، إنها تستعين بفن الحكى، لكى تقدم بانوراما شاملة، وصورة ثلاثية الأبعاد، لشخصيات ولأمكنة، حرفة السرد الغنى بالتفاصيل تنقذ الرواية من الملل رغم ضخامة حجمها، وحياة الشخصيات، وبراعة نحتها، تدفعان القارئ إلى مواصلة القراءة، رصيد الفن فى روايتنا هو رصيد البشر وإحباطاتهم وأحلامهم وبحثهم عن طريق، هناك نماذج غريبة وجدت ساردا يعرفها، فحكاها دون أن يترك شيئا من تاريخها. شخصيتان تتبادلان السرد فى البداية: «أحمد الضوى» مهندس الإنشاءات، وصاحب شركة المقاولات الصغيرة، و«جيهان العرابى» المصورة الفوتوغرافية المحترفة، وخريجة معهد السينما، ثم تنضم إليهما شخصية ثالثة مليئة بالتناقضات هى «ريم مطر» الممثلة المسرحية والتليفزيونية، خريجة كلية الآداب، والتى درست أيضا فى معهد الفنون المسرحية. ولكن الشخصيات الثلاث، التى يمكن أن نعتبرها نماذج نخبوية تعتمد بشكل كامل على جهدها العقلى أو الفنى والإبداعى، أى أنها، بشكل أو بآخر، جزء من الإنتليجنسيا المصرية، بكل عيوبها وخصائصها. هذه الشخصيات لا تحكى عن نفسها فحسب، لكن كل شخصية تفتح السرد على شخصيات أخرى لا تقل أهمية، لدينا إذن ثلاثة من الساردين، لكن عندنا عدد أكبر من الشخصيات المكتملة. كل شخصية تحيا الحاضر وتتحدث عنه (تلك المرحلة المفصلية فى العام 2010، وصولا إلى الشهر الأول من 2011 الذى شهد انفجار الثورة)، ولكن كل شخصية أيضا مشدودة إلى الماضى، من خلال شخصيات أخرى تحكى عنها، لعبت وتلعب دورا فى المسير والمصير. البناء أقرب فى حقيقته إلى عدة صناديق متداخلة مليئة بالشخصيات، وكل شخصية تقودنا إلى نماذج أخرى. أحمد الضوى مثلا سيفتح صندوقه الخاص، وسيفتح أيضا صندوق صديقه الضابط «عماد»، سيحكى «أحمد» عن زوجته السابقة «جليلة»، وعن والده الصعيدى، وعن أمه قوية الشخصية، وعن «حسام» خاله المثقف الشيوعى الراحل، وعن جاره العجوز «شريف»، الشيوعى السابق، المريض نفسيا، وسيحكى بالطبع عن «جيهان» و«ريم» بسبب حيرته بينهما، و«ريم» ستحكى عن طليقها «على المنصورى»، وعن ابنتها المضطربة سلوكيا «ملك»، وعن أسرتها الأرستقراطية الثرية: أمها مديرة المدرسة، ووالدها المقامر، ستحكى «ريم» كذلك عن شقيقتها «رويدا»، وزوج شقيقتها اللبنانى «سليم»، وعن الصديقة اليونانية «استيلا»، وجيهان ستحكى عن زوجها النحات الراحل تميم، وعن أستاذه الفنان عبد الهادى الوشاحى (شخصية حقيقية عظيمة تظهر باسمها وبمهنتها مندمجة مع شخصيات الرواية)، وتحكى جيهان بالتفصيل عن صديقتيها «رنا» و«بسمة»، وتستدعى الصديقتان رجليهما الحاضرين «فؤاد» و«خيرى». فى كل ركن شخصية، وفى كل صندوق حكاية، وهذا ما يجعلنا نتحدث عن خريطة وجدارية للشخصيات، التفاصيل والأحداث والتحولات ليست فى حقيقتها إلا ضربات إزميل النحات، لإخراج هذه الشخصيات الكامنة فى حجر الواقع، من خانة الوجود بالقوة، إلى خانة الوجود «الفنى» بالفعل، وكأن مكاوى سعيد يقول لنا: هذا قطاع من النخبة المصرية عشية انفجار الوطن بالثورة، سأقدمهم دون رتوش، بكل حياتهم وأزماتهم الشخصية، بأحلامهم وهواجسهم، الشخصيات لا تعانى من مشكلات مادية، لديهم أعمالهم أو أحلامهم، ومع ذلك فهم تائهون ومعلقون بين السماء والأرض، متمركزون حول ذواتهم، تفاجئهم الثورة، يظهر بعضهم فى الميدان، تظل إرهاصات الانفجار فى الخلفية، وبإشارات سريعة، حتى تصبح النخبة فجأة وسط الطوفان. مكاوى سعيد بارع حقا فى وصف معاناة النخبة المتعلمة والمثقفة، وفى وضع خطوط تحت تناقضاتها وانكساراتها، ومع ذلك، فإن تعاطفه بلا حدود مع الذين فقدوا الحلم، تحت ضربات الواقع، لدينا شخصيتان من أفضل ما قدمت الرواية المصرية والعربية فى هذا الإطار: «شريف» الشيوعى الذى وقع فريسة الوساوس والاكتئاب، و«تميم» النحات الذى انحشر بين الفن والتجارة، والذى ظل مشدودا بين سحب الأحلام وقيود الواقع، حتى فقد حياته. النخبة فى الرواية مشوشة حتى على المستوى العاطفى: «أحمد» حائر بين «ريم» و«جيهان»، و«جيهان» حائرة بين الماضى والحاضر، ومشكلات «رنا» و«بسمة» مع رجليهما تصنع مسلسلا تركيا طويلا وعجيبا، ولأن كل نموذج بعيد تماما عن النمطية، ولأن الشخصيات قادمة من أصول متباينة، فإن حكاية «جيهان» و«أحمد» و«ريم» تتسع تدريجيا لتشمل حكايات أخرى مدهشة، لا تقل أهمية أو دلالة. الصراع فى الرواية داخلى بصفة أساسية، سببه تناقضات داخلية كتلك التى تقود تصرفات «ريم مطر»، أو تفسد محاولات «أحمد الضوى»، أو تضحكنا على فلسفة الضابط المسيحى «عماد»، أو تدهشنا من استلاب وضعف «بسمة» أمام عشيقها «خيرى»، أو حتى تستفزنا بسبب سطحية المخرج «إبراهيم» وزميله المونتير «فريد». الشخصيات تتعرى على صفحات الرواية بكل عقدها وهزائمها، «مريم» وحدها يمكن أن تكون بطلة لعمل مستقل، لو رسمناها لاستعرنا كل ألوان هنرى ماتيس أو جوجان الوحشية الفاقعة، هناك دراسة كاملة لكل شخصية، اجتماعيا ونفسيا وعاطفيا وسلوكيا، وهى جميعا مجرد «عيّنات» تستحق الكتابة والتأمل.