لا اعتراض على حق البعض وحريته فى أن يتوجه لله شاكرا بقوله «الحمد لله الذى خلقنا مسلمين»، رغم أن الانتساب إلى العقائد يفقد الكثير من قيمته حين يصير وراثة لا اختيارا. كذلك يصبح من حق الغنى بالوراثة أن يشكر ربه قائلا «الحمد لله الذى خلقنى غنيا». لكن خطورة هذا الأمر، الذى يبدو بريئا من الخارج، أنه يسبب مشكلة كبرى عندما يدفع أولئك الأشخاص الشاكرين إلى الاقتناع التام بأن اختيار الله وقع عليهم لأنهم أفضل من غيرهم! هنا يثور السؤال: هل يفضل الله النطف فى الأرحام ويصطفيها ويعطى لبعضها امتيازا مستقبليا عن بعضها الآخر؟ منطق الاصطفاء هذا تكمن خطورته فى أنه يتنامى فى نفس صاحبه الفرد يوما بعد يوم، وفى نفس صاحبته الجماعة جيلا بعد آخر حتى يصل بهما (الفرد والجماعة) إلى الاقتناع التام بأن الله فضلهما على غيرهم واصطفاهما ليؤمنا بدين بعينه، أو ليتمتعا بمال أو جاه يستحقانه لمجرد انتسابهما بالمولد لأسرة أو لشعب ما بلا أى جهد أو فضل ينسب إليهما! على الجهة الأخرى يسحق المنطق ذاته آدمية الفقراء و«الأغيار»، ويدفع من يتبنون تلك النظرية الاصطفائية إلى الاقتناع بأن الفقير يستحق أن يشقى بفقره لأن الله لم يختر له واقعا أفضل. من هنا تنشأ نظريات غامضة متناقضة تتصارع فى ما بينها، لتؤكد أن أمة أفضل من غيرها، وأن جنسا أو نوعا يتميز عن غيره، تصنعها الأمم والأجناس على هواها لتساعدها على اجتياز مآزقها الوجودية. ما زلت أشعر بالخزى والعار كلما تذكرت خطيب الجمعة الذى سمعته منذ سنوات طويلة يرفع عقيرته شاكرا ربه قائلا: الحمد لله الذى خلقنا ذكورا ولم يخلقنا إناثا! وقتها أذهلنى أن الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية صاحوا خلفه مرددين بمنتهى الحماسة: آااااااامين! يرفض عقلى ما يذهب إليه غالبية الذكور عندما يخلطون بين الصفة التشريحية وبين الجدعنة التى يصفونها ظلما بالرجولة. لأن الصفة التشريحية سواء أكانت ذكورية أو أنثوية لا تحمل فى طياتها بمفردها أكثر من تحديد النوع. ضعاف العقول فقط يسبغون عليها فضائل الجدعنة والشهامة ويلحقونها بالرجولة بطريقة آلية، لأنهم يربطون تلك الفضائل بالقوة الجسدية فقط. يقومون بذلك غير مدركين أن هذا الرباط الخاطئ يجرد الرجل النبيل المريض، أو النحيل المحترم من تلك الصفات الحسنة، ويلصقها تعسفا بالرجل قوى الجسد حتى وإن كان وضيعا حقير النفس! أيضا يفترض ذلك المنطق أن للرجل الحق فى الوصاية والاختيار لأخته ولغيرها من النساء اللاتى يقعن فى دائرة قرابته، مستندا إلى اعتقاده بأن الله اصطفاه وجعله ذكرا! يتجسد ذلك الاعتقاد فى سؤال يوجهه لمن يرفضون الاعتراف بتفوقه الذكورى المزعوم: وهل ترضى (هذا) لأختك؟ وكثيرا ما يكون (هذا) سلوكا لا يجرمه القانون، ولكن لا ترضاه الأعراف الذكورية السائدة، مثل ممارسة المرأة لفن كالغناء، أو فى اختلاطها بالفتية للدراسة، أو فى السهر الذى يفرضه أداؤها لعمل ما، حتى إن كان عملا نبيلا كالتمريض. يُطرح ذلك السؤال الجائر بغرض إحراج المتلقى، وابتزازه كى يجيب بالرفض، وإشعاره بفقدان كرامته إن تجاسر وأجاب بأنه يرضى ذلك لأخته. الخطأ المنطقى هنا يكمن فى افتراض أن رضا الذكر أو عدمه يمنحه حق الوصاية والاختيار لشخص آخر لا يملك، هو أو غيره، حرمانه من حق تقرير مصيره بنفسه. الوصاية هنا لا تُسقط الأهلية فقط عن الأنثى التى تتم ممارسة الوصاية عليها، بل تنزع الغطاء عن فكرة الثواب والعقاب السماوى ذاتها، وتفقدها مشروعيتها. لأن المنطق الذى يجيز منح الثواب لمن تطيع ربها مجبرة ومكرهة، يُسقط العقاب عن من لم تجد وصيا يبعدها عن الخطأ! الأسر التى تعولها امرأة لا يتبنى أفرادها معايير الاحترام الزائفة تلك. ينشأ الذكور أبناء مديرة الأوبرا التى تقود الرجال وتختلط بهم، أو العاملة البسيطة التى يترأسها ذكور مرضى النفوس، ويكبرون على الإيمان بأن قيمة المرأة (أمهم) تصنعها مهاراتها واحترافيتها خلال ممارسة عملها الشريف، ولا يصنعها قيمة عملها فى حد ذاته. ضحالة الفكر تذهب بكثير من الناس إلى الاعتقاد بأن المسلم المنحرف أفضل من غير المسلم السوى، وأن الذكر أفضل من الأنثى، وأن كل السافرات العاملات مخطئات بل وربما عاهرات! هذا المفهوم الأعوج يستغله الظلاميون أصحاب دعاوى عودة المرأة إلى المنزل بهدف إتاحة الفرصة لرجال، غالبا ما يكونوا من محدودى الكفاءة، لاقتناص فرصة للعمل لم ولن يحصلوا عليها فى ظل منافسة شريفة مع نساء أفضل منهن. بالإضافة إلى أنه يبرر لهم الدعوة كذلك لحرمان المرأة من التعليم، لأنها لن تعود بحاجة إليه بعد إبعادها عن سوق العمل! هذا المنطق الملتوى يحوّل النساء إلى نعاج، وبالتالى يحوّل الرجال إلى تيوس يحق لهم نطح نعاجهن لإبعادهن عن المرعى وإتاحة الفرصة لأنفسهم لالتهام المزيد من البرسيم! فى الوقت الذى اهتم فيه صديقى القاص المبدع حسام فخر رئيس القسم العربى للترجمة الفورية فى الأممالمتحدة بأن يكتب على صفحته فى «الفيسبوك»: «عندما يتوقف الاحتفال باليوم العالمى للمرأة ستكون ابنتى أو حفيدتى قد نجحت فى تحقيق المساواة الكاملة»، يوجد (رجال) يتجرؤون فى كل طلعة شمس على منح أنفسهم مزايا لا يستحقونها، تجيز استعبادهم لغيرهم، يبررها فى أعينهم شعورهم المريض بالتفوق الذى لم يمنحه لهم الرب. هؤلاء ذكور بشرية أقصى آمالهم أن تصل إلى مجتمع يقنن لهم حق الضبطية القضائية للذكر المسلم، الذى يتوهم امتلاكه تفوقًا زائفًا على الإناث، وعلى الذكور من أتباع الديانات الأخرى!