من الواضح أن الولاياتالمتحدة ومحورها الأورو أطلسى غير مقتنعين إطلاقا بتحركات جبهة الإنقاذ والمعارضة فى مصر، وغير عابئين أساسا بحركة الشارع المصرى. هذا الأمر ناتج مباشرة من رغبة واشنطن فى استكمال خطها الواضح فى دعم «القوى اليمينية الدينية المتطرفة» فى مصر والمنطقة. وناتج أيضا من جهود ممثل مكتب الإرشاد فى قصر الاتحادية وجماعة الإخوان. تلك الجهود التى تتعامل بنجاح إلى الآن مع المعادلة الخارجية بإرسال الرسائل الكلاسيكية البراقة إلى الخارج وتصوير ما يجرى فى مصر على أنه «مكافحة شغب» و«صراع سلطة شرعية منتخبة مع مجرمين وقطاع طرق وأطفال شوارع» و«مواجهة العنف الذى تحرض عليه معارضة ضئيلة الوزن والفاعلية ضد سلطة شرعية». إن رغبة واشنطن تتلاقى مع جهود الإخوان، ما يمنحنا المشهد السياسى الراهن فى الداخل المصرى. فجبهة الإنقاذ تنهار فى هدوء. وهناك بالطبع فارق كبير بين اختلاف الآراء والتوجهات فى جهة عريضة تضم تيارات وأحزابا مختلفة، وبين الفشل فى إدارة واستثمار ثراء التنوع والاختلاف بسبب الطموحات الصبيانية والرغبات الطفولية. فحزب «غد الثورة» أعلن بشكل نهائى عن توجهاته وانحيازاته. وحزب «الوفد» يطلق إشارات خضراء نحو مكتب الإرشاد وقصر الاتحادية. بينما عمرو موسى يستثمر مبدئية محمد البرادعى بدبلوماسية شديدة لدرجة أن طريق موسى والبرادعى يبدو واحدًا ومتجها نحو واشنطن عبر مكتب الإرشاد والرئاسة. لكن لا يشك أحد فى أن طريقى موسى والبرادعى مختلفان حتى وإن لم نتفق مع أى منهما. يبقى حمدين صباحى الذى أعلن، وما زال يعلن أنه لا يلعب مع النخب، حتى إنه توجه إلى قصر الاتحادية فى ذكرى تنحى مبارك فى أثناء الاشتباكات الدامية هناك. الرئاسة المصرية وجماعة الإخوان تأخذان الفرصة بعد الأخرى لا لإدارة الحكم، بل لتفتيت المعارضة وتشويهها وضربها فى الصميم. ويبدو المشهد الآن وكأن الرئاسة والحكومة فى وادٍ، وجبهة الإنقاذ والمعارضة فى وادٍ آخر، والشارع المصرى بثواره ومتظاهريه ومعتصميه فى وادٍ ثالث. فالرئاسة تطالب المعارضة برفع الغطاء السياسى عما تسميه ب«العنف». وجبهة الإنقاذ والمعارضة تؤكدان أن «الثورة سلمية» وأن «العنف» يأتى من قلة قليلة بين المتظاهرين السلميين! وأن الجبهة لا تريد إسقاط الرئيس! بينما الشارع يغلى اقتصاديا واجتماعيا ومعيشيا على خلفية الانفلات الأمنى وغياب الدولة ومؤسساتها الأمنية والفشل الكامل للإخوان المسلمين والرئيس مرسى فى إدارة الدولة. أين الانتخابات التشريعية التى كان من المقرر إجراؤها فى فبراير 2013؟ أين الحكومة من الأزمات والانهيارات المتوالية؟ أين النائب العام من قضايا قتل المتظاهرين ومحاكمة قتلة الثوار؟ تساؤلات بسيطة تتردد الآن على لسان كل المصريين البسطاء الطامحين إلى العدل والعدالة والمطالبين بأبسط حقوقهم المعيشية والاجتماعية. لكن النخب هى النخب فى كل العصور والأزمان والمراحل التاريخية والأزمات والثورات. وهذا يعنى ببساطة أن الشارع المصرى بعاطليه عن العمل ومواطنيه من سكان العشوائيات وأطفال شوارعه وطلابه «المشاغبين» وثواره «العنيدين» هم المخولون بتغيير كل المعادلات الداخلية ليس فقط من أجل إفهام واشنطن ومحورها المطيع وحلفائها الخليجيين وبقايا الإمبراطورية العثمانية بأن كل خططهم فاشلة، بل وأيضا بأن المصريين قادرون على رسم مستقبل بلادهم بعيدا عن التطرف والتخلف والرجعية والعنصرية، قادرون على تحديث مصر وإقرار الأمن والعدل والعدالة الاجتماعية وبناء دولة القانون لا دولة الملالى والمرشدين والشيوخ والأغوات. إن مصر تضم نحو 3 ملايين طفل من أطفال الشوارع طبقا لإحصائيات منظمات المجتمع المدنى، يبيتون فى الحدائق وتحت الكبارى ووراء المنازل المهدمة وفى المدافن. وربما يكون العدد الحقيقى أكبر من ذلك بكثير. لم تتمكن الدولة المصرية طوال عشرات السنين من وضع برامج حقيقية لاستثمار هذه الطاقة والتعامل معها بشكل إنسانى واجتماعى واقتصادى. هؤلاء الأطفال والشباب آمنوا بالثورة فى بدايتها وفى حلم التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية. لكنهم تحولوا، على خلفية الفوضى الأمنية والاجتماعية، إلى «طرف ثالث وأعداء الشعب ومجرمين ووصمة على جبين الثورة». هكذا يصفهم الجميع من ساسة وتجار دين ونخبة ومثقفين و«أولاد ذوات»! الجميع ينفر منهم على الرغم من وجودهم الفعلى فى الواقع، وفى مقدمة الصفوف الأولى فى الثورة، وفى الاشتباكات والاحتجاجات و«الاحتياجات». الفقر والأمية والحياة الصعبة حولت كثيرا من المصريين، من سكان العشوائيات والعاطلين عن العمل، إلى مشبوهين ومجرمين فعليين ومحتملين وأطفال شوارع. ولا يتوانى الإعلاميون والساسة وتجار الدين عن احتقارهم واتهامهم بأنهم سبب البلاء. وكأن الثورة لا بد أن تشتعل بأيدى الأغنياء والميسورين، وتكون لصالحهم من أجل إعادة توزيع الثروة بينهم، وبينهم فقط. فى الحقيقة، عدد أطفال الشوارع يزيد كثيرا عن الإحصائيات الرسمية. فملايين المصريين يعيشون حالة من الفقر والبطالة ويسكنون العشوائيات والمقابر. وأكثر من 80% - 90% من المصريين لا يختلفون كثيرا عن أطفال الشوارع من حيث المظهر والحالة المعيشية والاجتماعية بنتيجة ظروف ليس لهم يد فيها. فهل فعلا يشوه أطفال الشوارع الثورة؟ ولماذا قامت الثورة أصلا، ومن أجل من؟!